ثمة دراسة أمريكية تستثني المملكة المغربية من خضم الحراك العربي الحاصل في المنطقة العربية لاعتبارات متعددة . ترى الدراسة التي أنجزها معهد سوفان غروب المجموعة الأمريكية المتخصصة في الدراسات الذكية الاستكشافات الجيو- استراتيجية أن المغرب في سياق إقليمي يسوده العنف وأجواء عدم اليقين التي أعقبت “الربيع الديموقراطي” بمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، يشكل حالة استثنائية وكنموذج بمنطقة المغرب العربي والساحل.
معتبرة أن الديمقراطية المغربية تتقدم تحت قيادة الملك محمد السادس وبفعل إرادته لتعزيز مسلسل الإصلاحات عبر تقوية العلاقات الديبلوماسية مع بلدان الجوار، والمساهمة في المؤسسات الإقليمية المعددة الأطراف. كما ذكر منجز هذه الدراسة أن هذه الاستراتيجية ترتكز على تعزيز دولة الحق والقانون، ودعم الإصلاحات بقطاعات التربية والتعليم والتشغيل في إطار مؤسسي يقوم على قيم ومبادئ المذهب المالكي.
غير أن السؤال المحرقي المطروح بشدة ضمن هذا السياق يطرح كما يلي. ماهي خصوصيات الدولة المغربية المحققة للاستثناء؟
واقعيا لا يمكن أن نجيب عن السؤال إلا عبراستحضارمجموعة من الحقائق التي تميزالمغرب عن مجموعة من الدول العربية الأخرى.
1- للمملكة المغربية مواصفات وخصائص تجعل منها نظاما متصفا بالمرونة والاستيعاب للحركات الاحتجاجية والمسيرات الاجتماعية والسياسية والنقابية التي يشهدها الشارع المغربي اليوم.
2- آليات الاستشعار القبلي للازمات والقدرة على تدبيرها. فتمة مراصد تراقب ما يمكن أن تخرج به الطبقة السياسية المغربية بحكم المعرفة الدقيقة والمضبوطة للأحزاب والنخب والجماهير.
3- التخطيط الاستراتيجي الملكي لتدبير الأزمات، ومواجهة الحركات الاحتجاجية من خلال التسريع بتغيير السياسة المتبعة عبر تعديل الدستور وخطاب 9 مارس باعتباره خارطة الطريق الجديدة في مسار السياسة المغربية .
4- الدفع في اتجاه تقديم تنازلات من طرف المؤسسة الملكية للحفاظ على نفوذها واستمرارها عبر الوثيقة الدستورية.
5- العمل على نقل نظام الحكم من ملكية تنفيذية رئاسية متحكمة في كل السياسات القطاعية إلى ملكية منفتحة و ديمقراطية .
6- إصلاح الوثيقة الدستورية من خلال تكريس الخيار الديمقراطي باعتباره رابع ثوابت المملكة المغربية بعد الملكية وإمارة المؤمنين والصحراء المغربية .
7- النظام السياسي في المغرب نظام ملكي منذ قرون ،هو الضامن الواحد و الوحيد للوحدة المغربية المتماسكة رغم اختلاف عرقياتها واتجاهاتها السياسية في مقابل أزمة الجمهوريات التي تحولت إلى جمهوريات وراثية أو ملكيات ( سوريا– تونس- مصر – اليمن…)
8- رمزية الملكية المغربية الضامن للوحدة والموحدة للعرقيات والساهرة على حماية الملة والدين .
9- طريقة تدبير الصراعات: شهد المغرب بعد خروج حركة 20 فبراير إلى الشارع واحتلاله لمساحاته بشكل أسبوعي أو يومي محطات دستورية. وفي كل محطة تتغير الاستراتيجيات فعلى سبيل المثال تغير إيقاع الملكية، بين الحسن الثاني ومحمد السادس. فالاكراهات اليوم مختلفة ما يتطلب تسريع مسلسل الديمقراطية.
10- أما على مستوى الأحزاب والحياة الحزبية داخل المشهد المغربي، فحياتنا الحزبية مختلفة عن الأحزاب السياسية في باقي البلدان العربية. فالحزب الحاكم اليوم، الذي جاء إلى الحكم على سفينة 20 فبراير حزب العدالة والتنمية الذي تم قبوله على مضض من قبل المؤسسة الملكية؛ عاش داخل المغرب وشارك في مختلف الصراعات السياسية وتسلق وتدرج عبر السلم السياسي من محطة انتخابية إلى أخرى من حركة إصلاحية دعوية إلى حزب سياسي، شارك في الانتخابات التشريعية.
فهو ذو بنية مغربية أصيلة تعايش مع المرجعيات اليمينية الاستقلالية والمرجعيات الشيوعية، فهو حزب تعايش مع الليبرالي والتكنوقراطي واليساري بحكم النظام الانتخابي المغربي الذي لا يفرز منتوجا حزبيا خالصا يدبر المرحلة بمفرده بل يضطر إلى صناعة أقطاب أخرى لتشكيل الأغلبية.
كما أن الحزب كان ذكيا في تعاطيه مع محيطه وما يقع خارج المملكة. إذ يشتغل في إطار استراتيجية الخط السياسي للمؤسسة الملكية دون أن يسعى إلى الاختلاف معها، وهو ما يبدو بشكل قوي من خلال تصريحات بنكيران في غير ما مرة.
و الخلاصة أن الحزب والمؤسسة الملكية خطان متوازيان يلتقيان .
فالعدالة والتنمية حزب انحدر أمام العواصف التي كادت أن تعصف به، أحداث 16 ماي العمليات الإرهابية، تفجيرات أركانه، ما يقع في مصر، وعدم تسمية الأسماء بمسمياتها، والصمت أمام الانقلاب على الشرعية في مصر، عدم الإدلاء برأيه في ما يقع في تونس وحركة النهضة توأم العدالة والتنمية. كل هذا ليحافظ الحزب على موقعه السياسي أمام عواصف رعدية قوية تتربص به وتسعى إلى تكسير شوكته.
فالذكاء السياسي كان عاملا من العوامل التي خلقت الخصوصية داخل الحياة السياسية المغربية.
11- فحزب العدالة والتنمية الحاكم لا يتقدم على الملك ولا يتأخر عنه يسير بمشورته في كل القرارات . فالملك يتحدث لغة دستورية وهو رئيس له مجال خاص به، مجال التحكيم والتعيينات في المناصب السامية. ورئيس الحكومة يبث في السياسات العامة، لذلك فالملك مثلا لم يتدخل في أمر انسحاب الاستقلال من الحكومة ولم يحسم في الأمر بل ترك المجال وفق مقررات الدستور للحكومة.
12- الحكومة الجديدة تمر من تمرين ديمقراطي تعيد من خلاله بناء الذات على مستوى التدبير والحكامة والإرث الثقيل الذي وجدته ما جعلها تستغرق وقتا ليس بالهين .
13- فالمغرب وعلى العكس من الدول الأخرى التي حط ” الربيع الديموقراطي ” الرحال بها – وهذا ربما ما يشكل الاستثناء – لم يلتق فيه الخطاب السياسي بالخطاب الاقتصادي والاجتماعي؛ فالنظام المغربي والمؤسسة الملكية خصوصا قامت بتعويم – وهذا هو الذكاء الاستراتيجي للنظام -بتعويم المطالب، فتم الابتعاد عن المطالب السياسية المؤسسة للنظام المغربي إلى مطالب معيشية صرفة .
14- على مستوى المؤسسة الإعلامية الرسمية ، فالدولة لم تعمل على تحرير الإعلام بشكل كامل بل اقتصرت على تحرير القطاع السمعي ( الإذاعات الخاصة المستقلة ) دون القطاع البصري . فهناك 22 إذاعة خاصة ، وهذا الانكماش الإعلامي ساهم في إبقاء الوضعية المغربية بين دروب المحلية والإقليمية على اكبر تقدير دون أن تصل إلى العالمية. الدولة مازالت غارقة في همومها ولم ترد ترويج نموذجها السياسي خوفا من إتساع رقعة الحركات الإحتجاجية.
15- على مستوى الحريات: ما خلق الاستثناء هو الآلية التي يشتغل بها المغرب من خلال المجلس الوطني لحقوق الإنسان ، حيت عمل على تعزيز الحريات الفردية والجماعية ، كما انه استطاع أن يروج لهذا الأمر في بعثاته الدبلوماسية ونذكر على سبيل المثال لا الحصر فتح السجون أمام البعثات الدولية المراقبة للسجون ، تعزيز وضع المهاجرين ….
حاصل الأمر يمكن اعتبار هذه أهم العوامل التي أرى أنها جزء من كل تظافر وتداخل بشكل جدلي ليؤسس للاستثناء المغربي الذي يعتقد الكثير أنه لا يوجد إلا في عقلية المخزن ومريديه. واني أدعو كل من يرى في هذا النص خروجا عن النص أدعوه إلى تهديمه وإعادة تفكيكه وبنائه وفق اقتناعاته، لأن النص الذي لايحطم نفسه بعد أن يحطم كل ما حوله لا يستحق متعة القراءة و شهية النقد.
يحيى عمران.
(*) أستاذ باحث في تحليل الخطاب
yahia.amran@gmail.com