اعتبرت جريدة الشروق الجزائرية الواسعة الانتشار، في عدده الصادر اليوم الأحد، أن صناعة الحكام في الجزائر ما زال يشكل لغزا بالنسبة للعارفين بالشأن الجزائري، ما دام الشعب لم يختر ولا رئيسا واحدا للبلاد من الاستقلال سنة 1962.
وتشير الجريدة أنه من من المتفق عليه أن صناعة الزعيم الحاكم في الجزائر، هو اللغز الذي لم تفكه عشرات الكتب التاريخية التي زادت من تعقيد هذا اللغز المحيّر.
فلا أحد يصدق أن الرئيس بومدين كما كان يقول هو بنفسه، بأنه صحّح الثورة سلميا، عندما انتزع كرسي الحكم بالقوة من أحمد بن بلة، ولا أحد يصدق أن الشاذلي بن جديد استقال بمحض إرادته، ولكننا جميعا نؤمن بأن للجيش اليد الأولى في صناعة الرؤساء، ونؤمن بأن فرنسا تلعب دورا هاما وفعالا في الشأن الجزائري، وفي أسوأ الأحوال دور المراقب، ونتفق على أن الشعب هو مجرد بيدق في الرقعة لالتهامه فقط، ولاستعماله في تسخين المشهد السياسي بين انتخاب وآخر، ويبقى الاقتراع رسما كاريكاتوريا، في بلد دخل عامه الثاني والخمسين منذ الاستقلال، ولم يرأس بلاده سوى سبع شخصيات.
وحطّم منذ السنة الماضية الرئيس عبد العزيز بوتفليقة الرقم القياسي، لأطول مدة لرئيس جزائري بقي في سدّة الحكم برقم سيبلغ 15 سنة في أفريل القادم مع موعد الانتخابات الرئاسية، وهو الرقم الذي كان بحوزة الرئيس الأسبق هواري بومدين بثلاثة عشرة سنة وستة أشهر وثمانية أيام، وكان الرئيس عبد العزيز بوتفليقة قد قاد الجزائر بعد انتخابات أفريل من عام 1999 وحصل على عهدتين إضافيتين عبر انتخابات 2004 و2009، وسبق لرؤساء الحملة الانتخابية في الرئاسيات الأخيرة في أفريل 2009 أن تكهنوا بأن يحطم الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة الرقم القياسي، قبل نهاية العهدة الحالية، وهو ما حصل فعلا، كما يتواجد الرئيس الراحل الشاذلي بن جديد في المركز الثالث حيث مكث في الحكم مدة 12 سنة و11 شهرا ويومين، وبحوزة الرئيس أحمد بن بلة حكما امتدّ عامين وثمانية أشهر و21 يوما، وتبقى الفترة الأقصر بحوزة الرئيس المغتال محمد بوضياف، فلم تزد فترة حكمه عن 5 أشهر و13 يوما.
أحمد بن بلة .. عيّن نفسه رئيسا قبل الاستقلال
إذا كان أمام النظام الآن، متسعا من الوقت لتعيين الكثير من الوجوه كمشروع رئيس، فإن الحال كان مختلفا بعد الاستقلال، فالجزائر التي عانت لمدة 132 سنة من الاستعمار، سبع سنوات منها كانت كفاحا لأجل الاستقلال، كان من المنطقي أن تبدأ حكمها بمخلفات الثورة، فالذين صنعوا الحدث في الأيام الأخيرة للاستقلال، لم يكونوا مستعدين لترك الحكم للإطارات والكفاءات العلمية القليلة، لأن أي مفكر هو في نظر الذين تسلّموا الحكم وصنع منهم الإعلام والنظام السوفياتي والمصري أبطالا فوق العادة، مجرّد بيادق في الحكم، أو ربما من اندماجيين لم يحاربوا فرنسا أبدا، مثل المفكر مالك بن نبي أو العلامة البشير الإبراهيمي، وأفرز حماس القادة الذين دخلوا العاصمة فاتحين، نظاما لا يختلف عن الستالينية، ليبدأ أول صراع على الحكم في تاريخ الجزائر المستقلة، وبدأ التقاتل ثلاثيا، بين الحكومة المؤقتة التي أسّسها الأفلان قبل الاستقلال عام 1958 والقادة العسكريين الذي احتفظوا بأسلحتهم، وقادة الولايات التاريخية بمديرياتهم، وكان بن بلة قد رسّم نفسه رئيسا منذ ماي 1962 في ليبيا أي قبل الاستقلال بشهرين بمباركة من جبهة التحرير الوطني وحتى من هواري بومدين، ولكنه اصطدم بعد الاستقلال بوجود طامعين كثر في السلطة، فكان عليه أن يأخذ المبايعة من العسكر ومن الولايات التاريخية.
كان أحمد بن بلة في سن الرابعة والأربعين فقط، وكان هواري بومدين دون الثلاثين، فبدأ تحالفهما في صالح الاثنين، خاصة أنهما لم يدخلا العاصمة الجزائرية إلا سويا في الثالث من أوت 1962، حيث أفل بسرعة بريق المجاهد يوسف بن خدة، الذي كان أول من بلغ العاصمة وتم تقديمه كرئيس أول للجزائر، لتنقلب الأمور لصالح حزب جبهة التحرير الوطني الذي أصبح بعد ذلك داعما للرئيس وليس صانعا له، ولكن تسارع الأحداث وبداية اقتسام كعكة السلطة ظهر منذ 25 سبتمبر 1962، عندما تم إعلان الجمهورية الجزائرية الديمقراطية الشعبية، التي حكم بها النظام، ومازال، رغم أن الديمقراطية ظلت دائما غائبة، والجمهورية والشعبية فيها نظر، وبعد أربعة أيام بانت النوايا بإعلان الحكومة المؤقتة بقيادة فرحات عباس وتعيين بن بلة رئيسا للوزراء، واستغل أحمد بن بلة كل الفرص، ومنها تعيين الجزائر عضوا في الأمم المتحدة في الثامن من أكتوبر ليصبح تواجد أحمد بن بلة رئيسا كأمر واقع.
ورغم التنوّع السياسي الذي كافحت به الجزائر وكافحت أيضا لأجله، إلا أن الجناح السياسي للأفلان أزاح الجميع فبقي مصالي الحاج ورفاقه في فرنسا، في شبه عزلة أو منفى، ولم يتمكن محمد بوضياف من المقاومة وزجّ به في السجن، وبقي آيت أحمد وحده يقاوم ديكتاتورية بن بلة وجماعته بمساعدة صديقه محمد خيضر، وقدم بن بلة للشعب دستورا أولا في الثامن من ماي 1963، تلاه انتخاب بن بلة رئيسا، بدعم كبير من بومدين في الثالث من سبتمبر من عام 1963، فقام بن بلة مباشرة بتعيين بومدين وزيرا للدفاع، مستغلا بذلك قدرة بومدين في تجميع رجالات السياسة بالعسكر، وضرب كل المعارضين مثل فلول مصالي الحاج وآيت أحمد والعقيد شعباني ومحمد خيضر ومحمد بوضياف، مع منع الحزب الشيوعي من النشاط وحتى رجالات جمعية العلماء المسلمين تم تهميشهم والتضييق عليهم وعلى رأسهم الشيخ البشير الإبراهيمي، فتم زرع تقاليد الحكم الديكتاتوري في الجزائر بعد سنة واحدة من الاستقلال بقليل من الأضرار للسلطة الحاكمة، وكثير من الأضرار للشعب المحكوم، بإطار سياسي مستمد من الخلفية الثورية وبالقبضة العسكرية التي ترى أن أي معارض للحكم هو خائن يجب تأديبه وحتى قتله كما حدث للعقيد شعباني.
هواري بومدين حكم الجزائر قبل الانقلاب بسنتين
حتى عندما كان أحمد بن بلة رئيسا، كان هواري بومدين هو الحاكم الأول للبلاد، إنها قناعة الكثيرين، لأجل ذلك كان الانقلاب مجرد إزاحة رئيس "شكلي" من منصبه، كان بومدين يضرب الآخرين من دون أن يظهر في الصورة، وربما محمد خيضر وآيت أحمد وحدهما من علما ذلك، على خلفية تعارف هذا الثلاثي في مصر منذ منتصف الخمسينات، كان أحمد بن بلة _ حسب رواية المجاهد لخضر بورڤعة _ يسأل آيت أحمد ويلومه كيف يحمل السلاح في وجهه؟ وكان آيت أحمد يرد سائلا ولائما أيضا كيف لبن بلة أن يسجن محمد بوضياف؟، وألهب بومدين النار بين هؤلاء، ودفع أحمد بن بلة لإعلان الحرب على الأفافاس بالاسطوانة التي ورثها كل رؤساء الجزائر، وهي الدفاع عن الثورة من الخونة، وأقنع هواري بومدين الرئيس بن بلة، بأن محمد خيضر والعقيد شعباني خطر على الثورة لأنهما لم يُدينا تمرد الأفافاس، وبالرغم من عودة الهدوء، بل وحتى التعاون بين آيت أحمد وبن بلة، في أكتوبر 1963 بعد التحرشات المغربية على الحدود الجزائرية المغربية، حيث أبدى آيت أحمد استعداده للمشاركة في الكفاح، وكان من شروطه أن يتم عزل هواري بومدين من قيادة وزارة الدفاع، ولم يكن يدري أن بومدين قد تمكّن من زمام الحكم، وهو الذي بإمكانه عزل بن بلة المسالم وليس العكس، وفي الوقت الذي كان آيت أحمد يتمنى ويطالب، كان بومدين قد ضرب ضربته الكبرى بعزل كل فرد من الجيش من أتباع آيت أحمد، ثم دفع بن بلة للقبض على آيت أحمد، الذي وجد نفسه في السجن، وهرب خيضر إلى الخارج إلى أن اغتيل عام 1967 في مدريد، وحسب المجاهد بورڤعة فإن بومدين كان يريد التخلص نهائيا من آيت أحمد، ولكن بن بلة غلبه بالحكم عليه بالإعدام ثم خفف الحكم إلى المؤبد.
الحُكم من خلف الستار تحوّل إلى أسهل انقلاب حدث في تلك الفترة، وعندما سئل بومدين من طرف الصحافة العالمية بعد ذلك، عن سبب انقلابه على حكم بن بلة، تحدث عن أخطاء ارتكبها صديقه بن بلة، وعن الحيلولة دون تكوين حزب ثوري طليعي يضم كل المناضلين، واتهمه بتعذيب بعض المواطنين وبعثرة أموال الدولة في غير فائدة، بومدين اعترف للصحافة بعد عشر سنوات من الانقلاب بأن الدبابات توزعت بأمر منه في شوارع المدن الغربية بالخصوص، ولكنه لم يعلن أبدا حالة الطوارئ، وأكثر من ذلك منح الحرية لحوالي 2500 معتقل، وقام بومدين خلال الانقلاب باعتقال خمس شخصيات هم أحمد بن بلة والحاج بن علا وعبد الرحمان شريف والنقاش ومحمد حربي، وهو دليل على أن بومدين كان متحكما بالكامل في دواليب العسكر وفي الساسة المدنيين أيضا، وبكل حسرة تحدث بن بلة بعد ذلك عن إزاحته من الحكم للصحافية العالمية الشهيرة سيلفيا كاتوري، فسأل بومدين عن الوعود التي قدمها للشعب من عدالة وديمقراطية، وقال بأنه هو الذي بنى الدولة، معتبرا الانقلاب تم بأياد أجنبية أيضا، رأت أن أحمد بن بلة، خطر على الرأسمالية بالخصوص.
هل كان بومدين هو مؤسس الحكم الديكتاتوري في الجزائر، وهو واضع أساسه في الجزائر؟ فالذين يقولون بأن رجالا كانوا خلف بن بلة والشاذلي وكافي وبوضياف وزروال وبوتفليقة، يعترفون بأن هواري بومدين هو الذي أراد السلطة واستأسد لوحده على مدار السنوات التي حكم فيها بزمام الجزائر، أما عن رأي الشعب في هذه السنوات فيمكن اختصاره كاريكاتيريا في انتخابات عام 1976 الثلاثة، بداية من الميثاق الوطني في 27 جوان حيث بلغت أصوات نعم 98,51 بالمئة، وعلى الدستور في 19 نوفمبر بنسبة 99,18 بالمئة وعلى الرئيس بومدين في 10 ديسمبر بـ 99 بالمئة.
الشاذلي بن جديد أجبروه على الحكم .. وأجبروه على الاستقالة
صناعة الرئيس من وراء الستار، بدأت تظهر جليا، منذ وفاة الرئيس هواري بومدين، فقد كانت أكبر مفاجأة عرفتها الجزائر منذ استقلالها هي تعيين الشاذلي بن جديد رئيسا للجزائر عام 1979، فقد رأى الجيش نفسه غير مستوعب للرجلين اللذين فرضا نفسيهما إعلاميا ودوليا أيضا، وهما عبد العزيز بوتفليقة ذو التوجه الرأسمالي ورجل الديبلوماسية الأول في الجزائر الذي قرأ تأبينية هواري بومدين بلغة عربية راقية صنعت الحدث السياسي والعاطفي معا، ومحمد الصالح يحياوي ذو التوجه الاشتراكي، الذي كان حينها رئيسا للجنة التنفيذية، وعضو مجلس الثورة، وبحث الجيش بسرعة عن رجل أقل كاريزما شعبيا من الرجلين، وقد ترك هواري بومدين بعد وفاته _ حسب مذكرات الدكتور أحمد طالب الإبراهيمي _ جيشا وأمنا عسكريا قويا، وحزبا قويا يتمثل في جبهة التحرير الوطني، وتؤكد شهادة الراحل قاصدي مرباح على أن الشاذلي بن جديد لم يفكر أبدا في تسلم زمام البلاد، بل إنه كان رفقة عبد الله بلهوشات من أنصار رئاسة محمد الصالح يحياوي للبلاد، في الوقت الذي كان الطيب العربي وأحمد دراية من أنصار ترؤس بوتفليقة للبلاد، وانقسم محمد بن أحمد عبد الغاني وأحمد بن الشريف بين معارض للشخصين وباحث عن مكان له في الشخصين، وبين هذا وذاك ظهر ثلاثة ضباط سامين، هم قاصدي مرباح ومصطفى بلوصيف ورشيد بن يلس، بنفس الأسطوانة التي استعملها بومدين وبن بلة باسم الدفاع عن مكاسب الثورة ومنع الفتنة، فأعلنوا الشاذلي بن جديد حلا وحيدا، وكان حينها قائدا للناحية العسكرية الثانية، و أيضا عضوا في مجلس الثورة.
ولأن الشعب كان دائما آخر من يعلم ولا يُرجع إليه أبدا، فإن الشاذلي بن جديد ظهر في جنازة هواري بومدين يذرف الدموع، وهي الصورة التي تمّ تسويقها للشعب، قبل أن يفرضوه عليه، فقد كان الجيش يرفض رجلا على شكل بومدين، هو من يحكم في الجيش، وظلت الجزائر في زمن الشاذلي تسير إلى المجهول سياسيا، رغم الاضطرابات التي وقعت في عهده، بعضها في منطقة القبائل بعد منع محاضرة لمولود معمري تحوّلت إلى ربيع أمازيغي، وأيضا ذات الأبعاد العقائدية من أحداث بويعلي وظهور معارضة إسلامية أنبتت الجذور الأولى للإسلاميين في الجزائر، وبالرغم من أن الذين اقترحوا على الشاذلي بن جديد الرئاسة خرجوا من السلطة بين من توفى وبين من ضعفت شوكته، إلا أن الذي سحب البساط من تحت أقدامه هو جنرال تقوّى في عهد الشاذلي بن جديد، هو خالد نزار الذي أصبح المسيّر الأول لمصنع الرؤساء من نهاية عهد الشاذلي إلى مشارف تسلم بوتفليقة للرئاسة، مرورا بحكم الثلاثي علي كافي ومحمد بوضياف واليمين زروال.
وحقق الشاذلي بن جديد المفاجأة، فقد تقلد الحكم وهو عسكري ابن المؤسسة، إلا أن النصف الأول من حكمه كان يوحي بأن الجزائر تسير نحو حكم مدني بالكامل، وخلع الرجل نهائيا بدلته العسكرية من أفكاره عندما زرع التعددية، وباشر بعض الانتخابات بكل ديمقراطية، ولكن طيبة الرجل غلّبت عليه بعض الجنرالات الذين كان أبرزهم على الإطلاق خالد نزار الذي سار على نفس نهج الرؤساء والزعماء السابقين، وهو التحدث باسم إنقاذ الثورة والجزائر من المخاطر، فتدخلوا ليس في إجبار الشاذلي بن جديد على الاستقالة وإنما أيضا في تعيين من يحكم البلاد مع الاحتفاظ بتعددية شكلية من خلال اختيار أرانب سباق للرئاسيات، وأحزاب بلغت درجة من التبعية أن تكون ضمن ائتلاف رئاسي، وانتخابات شكلية بطلها وضحيتها الشعب في آن واحد، ولم يختلف الشاذلي عن بومدين في الكاريكاتير الانتخابي حيث عين رئيسا بنسبة تصويت بنعم بـ 99,5 بالمئة في عام 1979، وتكرر نفس السيناريو بنفس النسبة في 1984، وفي انتخابات 22 ديسمبر 1988 التي أجريت بعد انتفاضة أكتوبر الشهيرة تم تقليص نسبة نعم إلى 88,47 بالمئة؟
الشروق.