لا يمكن للمرء إلا أن يتأسف وفي نفس الآن يشفق على الوضع الذي ميز بلدا في حجم الجزائر بسبب سياسة حكام ابتلي بهم، وسيادة ثقافة ليست في حال من الأحوال من شيم الجزائريين ولا من تقاليدهم، بل تم فرضها عليهم فرضا منذ أن ظهرت إلى الوجود دولة بالجزائر في الستينيات من القرن العشرين. كانت السنوات الأولى من حصول البلد على الاستقلال من الفرنسيين، الذين حكموا الجزائر 130 سنة لدرجة حوّلوها إلى إقليم من الأقاليم الفرنسية ما وراء البحار، بعد قضاء 315 سنة تحت الحكم العثماني، حبلى بالصراعات والنزاعات التي كانت تدور أساسا حول السلطة. ولم يكد يشعر أحمد بنبلة، أول رئيس للجزائر المستقلة، بالدفء على كرسي الرئاسة حتى نزل عليه انقلاب عسكري قاده وزير دفاعه، هواري بومدين، تحت شعار "تصحيح الثورة"، ليبسط سلطته وديكتاتوريته على الجميع بدليل أنه هو الذي أرسى أسس ثقافة الطرد التي ستصبح عقيدة لدى أغلب الذين جاؤوا من بعده. وكان أول عمل يقوم به بعد أن انقلب على رئيسه ورفيق سلاحه (بنبلة) طرد هذا الأخير من سدّة الرئاسة، ومن معه، والرمي بهم في السجن، وربما كانت الأمور ستعرف مآلا آخر لولا تدخل الأشقاء والأصدقاء حيث تركه "يغمل" في الاعتقال سنوات عديدة جعلت أجيالا بكاملها تجهل كل شيء عن أول رئيس لبلدها المستقل، بل لا تعرف حتى اسمه. بومدين هذا سيعطي الدليل على ثقافة الطرد التي أسس لها على أرض الواقع خاصة بعد أن استفرد بالسلطة وصار هو الزعيم الوحيد والقائد الوحيد، وذلك بعدم التردد لحظة واحدة في القيام بأكبر وأفظع عملية انتهاك ضد حقوق الإنسان في القرن العشرين تشمل مواطنين من بني جلدته وديانته ولغته، تتمثل في طرد عشرات الآلاف من المغاربة، ذكورا وإناثا وأطفالا، عاشوا واستقروا بالجزائر وتزوجوا وأنجبوا ذرية، ولم يكن يدور بخلد أي أحد منهم بأنه سيأتي يوم يقوم حاكم يسمى بومدين بطردهم شر طردة، وحجزهم في مراكز اعتقال قبل تنقيلهم عبر شاحنات نحو الحدود مع المغرب ورميهم بها بعد فصلهم عن أزواجهم وأبنائهم وأسرهم، ومصادرة كل ما ملكت أيمانهم ... في "مسيرة كحلاء" كما طبل ذلك بومدين في أبواق إذاعته ردا على المسيرة الخضراء المغربية لتحرير الصحراء. ومن تم استمرت أشكال الطرد وفنونه حتى بعد وفاة بومدين. وبما أن الرئيس عبد العزيز بوتفليقة ـ الله يعفو عليه ـ كان بمثابة ظل بومدين، ويصر على أن يتقمص شخصيته، فقد ازدهرت ثقافة الطرد في عهده بشكل ثانٍ، تمثلت هذه المرة في تسخير أداة اسمها "البوليساريو" للقيام باختطاف مواطنين مغاربة صحراويين من الأقاليم الجنوبية للمملكة بالصحراء نحو مخيمات أعدتها لهم الجزائر في تندوف. وهي عملية طرد بالقوة من منازلهم ومدنهم ووطنهم المغرب وترحيلهم إلى المخيمات التي لم يعد ساكنوها يطيقون أسطوانة الانفصاليين، فثاروا في وجوههم وهم يطالبون بفتح المخيمات لكي يعودوا إلى وطنهم المغرب. لكن النظام في الجزائر لا ينظر بعين الرضا ولا يرتاح لأي شيء فيه رائحة المغرب، ففضّل خوض معركة مع نفسه قبل أن يفرضها على الآخر. من عجائب وغرائب أشكال الطرد التي لا يجيدها ولا يتفنن فيها سوى النظام الجزائري، لجوؤه إلى طرد خبراء مغاربة ومنعهم من المشاركة في اجتماع المنتدى العالمي لمكافحة الإرهاب الذي انعقد بالجزائر... فقط لأنهم مغاربة. أليس هذا دليلا فوق العادة على سيادة ثقافة الطرد البومديينية التي يسير على ظلالها النظام الحالي؟ أليس هذا حجة على أن المغرب أصبح يشكّل هاجسا للجزائر؟