سعيد الهبطي
تحت عنوان: "قراءة القرآن جماعة دخيلة على الإسلام" كتب السيد محمد وراضي مقالا انتهى فيه إلى اعتبار هذه القراءة بدعة ضلالة.
وحيث إن السيد وراضي أشار في مقدمة مقالته إلى ان الكتابة مسؤولية، فأقول للسيد وراضي انطلاقا من هذا المبدأ: إن وصفك لهذه القراءة بأنها بدعة ضلالة، وأنها تقليد لليهود والنصارى، حيث تقول: " والله تعالى ما سن قراءة القرآن جماعة، ولا سنها الرسول ص! وإنما هي تقليد لليهود وللنصارى الذين يقرأون تراتيلهم داخل بيعهم وكنائسهم قراءة الجمع" كذا، مبالغة مفرطة في الحكم على هذه القراءة؛ حيث إنه حتى الفقهاء الذين لم يستسيغوا هذه القراءة لم يصفوها بما وصفتها به.
ولا أدري ما الدافع الذي جعل السيد وراضي يركز على نموذج واحد من بين جميع المعلقين، وجعل مقالته وكأنها افحام لهذا الشخص المسمى "عمر" مع أنه في تعليقات باقي القراء الكثير من الملاحظات القيمة التي يمكن الاستفادة منها.
المقال على طوله يدور فيما انتهى إليه من بدعة قراءة القرآن جماعة، على دليل أساسي واحد، هو أن هذه القراءة لم يفعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم تكن من فعل السلف؛ والنصوص العامة الواردة في المقال سيقت لضرورة التمسك بالسنة وذم الابتداع.
في الأسطر التالية أستعرض آراء الفقهاء في هذا النوع من القراءة لنعرف من خلال ذلك هل هي فعلا دخيلة على الإسلام؛ وسأتناول ذلك من خلال الأسئلة التالية:
أولا: ما هو قول الجمهور في المسألة؟ هل الإمام النووي وحده الذي يقول بجوازها فقط كما يدعي البعض، أم جماهير الفقهاء وعلى رأسهم الإمام بن تيمية ..إلخ
ثانيا: هل صحيح أن السلف لم يعرفوا هذه القراءة؟
ثالثا: هل فعلا قراءة القرآن جماعة تدخل تحت مسمى البدعة كما هو متعارف عليه عند جمهور الفقهاء؟.
أولا: ما هو قول جمهور الفقهاء في هذه المسألة؟
اختلف الفقهاء في مسألة قراءة القرآن جماعة، فكرهها بعضهم، وذهب الجمهور إلى جوازها، بل ورأى بعضهم أنها مستحبة.
فمذهب الحنابلة والشافعية استحباب ذلك وهو القول الثاني عند الأحناف؛ واستدلوا لذلك بالأدلة الدالة على عموم استحباب الذكر، كما في قوله صلى الله عليه وسلم [ ..وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله تعالى يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم...] والقرآن الكريم هو أول وأرفع أنواع الذكر.
قال الإمام ابن رجب الحنبلي رحمه الله بعدما ذكر الاختلاف في هذه المسألة: واستدل الأكثرون على استحباب الاجتماع لمدارسة القرآن في الجُملة بالأحاديث الدالة على استحباب الاجتماع للذِّكر، والقرآن أفضلُ أنواع الذكر. اهـ جامع العلوم والحكم. الحديث 36.
قال الإمام النووي: "وفى هذا دليل لفضل الاجتماع على تلاوة القرآن في المسجد وهو مذهبنا ومذهب الجمهور .. " اه شرح مسلم 17/21
وقال أيضا: " لا كراهة في قراءة الجماعة مجتمعين بل هي مستحبة وكذا الادارة، وهى أن يقرأ بعضهم جزءا أو سورة مثلا ويسكت بعضهم ثم يقرأ الساكتون ويسكت القارئون " اه المجموع شرح المهذب ج2 ص 166.
قال الإمام البهوتي رحمه الله وهو على مذهب الأمام أحمد ( ولا تكره قراءة جماعة بصوت واحد ) اه شرح المنتهى 1/254.
وقال الإمام ابن تيمية رحمه الله: (وَقِرَاءَةُ الْإِدَارَةِ حَسَنَةٌ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ وَمِنْ قِرَاءَةِ الْإِدَارَةِ قِرَاءَتُهُمْ مُجْتَمَعِينَ بِصَوْتٍ وَاحِدٍ وَلِلْمَالِكِيَّةِ وَجْهَانِ فِي كَرَاهَتِهَا، وَكَرِهَهَا مَالِكٌ ) اه الفتاوى الكبرى 5/344.
وقال الإمام السيوطي رحمه الله ( وحكى الشيخ عن أكثر العلماء أنها ) أي قراءة الإدارة ( حسنة كالقراءة مجتمعين بصوت واحد ) مطالب أولي النهى في شرح غاية المنتهى 1/598.
وقد رأى الإمام النووي أن ما ورد عن الإمام مالك رحمه الله من كراهة قراءة القرآن جماعة، مخالف لما عليه عامة العلماء، فقال رحمه الله: " وعن وهب قال: قلت لمالك أرأيت القوم يجتمعون فيقرءون جميعا سورة واحدة حتى يختموها ؟ فأنكر ذلك وعابه وقال ليس هكذا تصنع الناس إنما كان يقرأ الرجل على الآخر يعرضة فهذا الإنكار منهما مخالف لما عليه السلف والخلف ولما يقتضية الدليل فهو متروك والاعتماد على ما تقدم من استحبابها ) اه التبيان في آداب حملة القرآن ص 36 : ( فصل في استحباب قراءة الجماعة مجتمعين ).
ثم إن الإنكار من مالك رحمه الله تعالى على هذه المسألة لا يعني أنها محرمة أو من بدعة الضلالة كما جاء على لسان السيد وراضي، فقد روي عنه أيضا أن القراءة من المصحف بدعة، قال ابن رجب: وقال ابن وهب ... قال مالك: وأنا أكره ذلك الذي يقرأ في المسجد في المصحف..." جامع العلوم والحكم. م س.
ولايسطيع أحد اليوم أن يقول ذلك، وكيفما كان الأمر فإن عامة الفقهاء المالكية تأولوا قول مالك رحمه الله في هذه المسألة:
فقال الإمام الونشريسي رحمه الله ملخصا هذه المسألة في مذهب مالك: ( قال - صلى الله عليه وسلم -: "ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وذكرهم الله فيمن عنده، ومن أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه"، قال الإمام المازري: ظاهره –أي الحديث- يبيح الاجتماع لقراءة القرآن في المساجد وإن كان مالك قد كره ذلك في المدونة، ولعله إنما قال ذلك لأنه لم ير السلف يفعلونه مع حرصهم على الخير، قال بعض الشيوخ: ولعله من البدع الحسنة كقيام رمضان وغيره، وقد جرى الأمر عليه ببلدنا بين أيدي العلماء، والأمر فيه خفيف؛ قلت: وجرى الأمر عليه بالمغرب كله، بل وبالمشرق فيما بلغنا ولا نكير، وما هو إلا من التعاون على البر وعمل الخير، ووسيلة لنشاط الكسلان، وقد نصوا على أن حكم الوسائل على حكم المتوسل إليه). اهـ المعيار 1/155.
ثانيا: هل صحيح أن السلف لم يعرفوا هذه القراءة؟
قراءة القرآن جماعة لم تكن معهودة بالمدينة ولذلك لم يستحبها مالك رحمه الله ولكنها كانت منتشرة في الشام في عهد السلف.
قال النووي: "وروى ابن أبي داود : أن أبا الدرداء رضي الله عنه كان يدرس القرآن معه نفر يقرءون جميعا. وروى ابن أبي داود فعل الدراسة مجتمعين عن جماعات من أفاضل السلف والخلف وقضاة المتقدمين".اه
قال الحافظ ابن رجب: "وذكر حرب أنه رأى أهل دمشق وأهل حمص وأهل مكة وأهل البصرة يجتمعون على القرآن بعد صلاة الصبح، ولكن أهل الشام يقرءون القرآن كلهم جملة من سورة واحدة بأصوات عالية، وأهل البصرة وأهل مكة يجتمعون فيقرأ أحدهم عشر آيات والناس ينصتون، ثم يقرأ آخر عشر آيات حتى يفرغوا، قال حرب وكل ذلك حسن جميل وقد أنكر مالك على أهل الشام وقال زيد بن عبيد الدمشقي قال لي مالك بن أنس بلغني أنكم تجلسون حلقا تقرءون فأخبرته بما كان يفعل أصحابنا، فقال مالك عندنا كان المهاجرون والأنصار ما نعرف هذا قال: فقلت هذا طريف، قال وطريف رجل يقرأ ويجتمع الناس حوله فقال هذا من غير رأينا". انتهى. جامع العلوم .. م س.
من هنا نعلم أن ما يذكره بعض العلماء ممن يرون بدعة هذه القراءة، من أنها وجدت في المغرب فقط، وكمثال على ذلك قول الشيخ تقي الدين الهلالي في "مقالاته" ص 20: (وعمل السلف الصالح أن يقرأ أحد القوم و الباقون يسمعون ... هكذا كان الأمر في زمان النبي – ص- و بعده إلى يومنا هذا في جميع البلاد الإسلامية ما عدا بلاد المغرب في العصر الأخير، فقد وضع لهم أحد المغاربة و يسمى (عبد الله الهبطي) وقفاً محدثاً ليتمكنوا به من قراءة القرآن جماعة بنغمة واحدة، فنشأ عن ذلك بدعة القراءة جماعة بأصوات مجتمعة على نغمة واحدة و هي بدعة قبيحة تشتمل على مفاسد كثيرة..) انتهى. نعلم أن هذا الأمر كما تبين سابقا ليس صحيحا.
والمفاسد التي أشار لها الشيخ تقي الدين لا تسلَّم دليلا على تحريم هذه القراءة كما ذكر، والمجال لا يسمح باستعراضها هنا...
ثالثا: هل فعلا قراءة القرآن جماعة تدخل تحت مسمى البدعة كما هو متعارف عليه عند جمهور الفقهاء؟.
يعتقد بعض الناس أن البدعة هي: ما لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم، لذلك يحكمون على كثير من أفعال التطوع بأنها بدعة ومنها قراءة القرآن جماعة، وهو الأمر الذي سار عليه هنا السيد الوراضي أيضا.
وهذا المفهوم لا يعتمده جهمور الفقهاء، وذلم لإنه يفضي إلى إدخال ما هو من قبيل المباح في معنى البدعة.
وترجع تعاريف عامة الفقهاء إلى أن البدعة بمعناها الشرعي هي: ما لا أصل له في الدين، وعلى هذا المعنى يتنزل قول الإمام ابن تيمية رحمه الله في معنى البدعة حيث يقول: " وقد قررنا في قاعدة السنة والبدعة: أن البدعة في الدين هي ما لم يشرعه الله ورسوله، وهو ما لم يأمر به أمر إيجاب ولا استحباب، فأما ما أمر به أمر إيجاب أو استحباب، وعلم الأمر به بالأدلة الشرعية، فهو من الدين الذي شرعه الله، وإن تنازع أولو الأمر في بعض ذلك، وسواء كان هذا مفعولاً على عهد النبي صلى الله عليه وسلم أو لم يكن.." مجموع الفتاوى 4/ 107-108.
ويتنزل عليه قول الإمام الشاطبي هي: طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشرعية يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله سبحانه) كتاب: الاعتصام. ص 26 ج 1.
وقول الحافظ ابن حجر حيث يقول: "والمراد بقوله: (كل بدعة ضلالة) ما أحدث ولا دليل له من الشرع بطريق خاص ولا عام". فتح الباري 13/254
وصرح الحافظ ابن رجب بهذا المفهوم قائلا: " "فكل من أحدث شيئًا ونسبه إلى الدين ولم يكن له أصل من الدين يرجع إليه فهو ضلالة، والدين منه بريء". جامع العلوم والحكم ص 128.
هذا هو المفهوم الذي عليه عامة الفقهاء لمعنى البدعة، ولا يمكن سحبه على قراءة القرآن جماعة، إذ أنها من العبادات المطلقة التي تنبني على عموم الأمر بقراءة القرآن، هذا فضلا عن الأحاديث العامة المشعرة بجوازها بل واستحبابها كقوله صلى الله عليه وسلم: " ... وما اجتمع قوم ... يتلون..." الحديث هكذا بصيغة الجمع، وقد ذكر الحافظ ابن رجب كثيرا من هذه الأحاديث، يمكن الاطلاع عليها في كتابه جامع العلوم والحكم.
ثم ينضاف إلى كل هذا كثير من المقاصد الشرعية الأخرى...
ختاما أقول: لا يخفى أن القراءة الفردية بشكل عام أفضل، لكن تعميم القول بأن قراءة القرآن جماعة بدعة، قول غير صحيح عند جمهور الفقهاء؛ من هنا يظهر تهافت الادعاء بأنها دخيلة على الإسلام...
أسأل الله تعالى أن يحعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
إمام بدوسلدورف/ ألمانيا