بقلم: ذ. عبد الرزاق النقاشي
حلت، قبل شهر تقريبا، الذكرى الأولى لوفاة المفكر المغربي محمد عابد الجابري - رحمه الله - ، هذا المفكر العربي الإسلامي الذي كرس حياته لدراسة تلة من القضايا الفلسفية والفكرية، الاقتصادية والاجتماعية وغيرها، ليخلف مكتبة زاخرة تحتاج في مجملها لنفض الغبار و إعادة القراءة والتمحيص. مؤلفات قيّمة بكل ما للكلمة من معنى فهي لا تتقادم ولو بعد عشرات السنين.
عمل الجابري بالتدريس لفترة إلى جانب نشاطاته الفكرية، الصحافية والسياسية. وظهر له أول مؤلف حول إشكالات التعليم بالمغرب وفي ستة فصول بعنوان: "أضواء على مشكل التعليم بالمغرب" سنة 1973، يدرس جوانب الاختلال في المنظومة التعليمية آنذاك ويقدم بالتالي مقاربة مبكرة لمعضلة التعليم بالمغرب أو " المشكل المزمن " بتعبير الدكتور محمد عابد الجابري، رجل السجال العميق، كما كان يلقب ولا يزال.
لقد نجح المرحوم الجابري، من خلال مؤلفه هذا، في إعطاء تحقيب مفصل لمسار التعليم بالمغرب بدءا بتراجع التعليم الديني خلال فترة الحماية حيث عمل الاستعمار الفرنسي، خصوصا، على محاولة طمس الهوية الدينية والثقافية للمغرب، بل إن قوات الاحتلال الفرنسي حاولت التأسيس لمنظومة تعليمية معينة يمكن أن تستمر في خدمة مصالحها، عن بعد، حتى بعد إعلان الاستقلال. لقد أدى هذا إلى ظهور مفترق ثقافي وبالتالي بزوغ تيارين، وصف الأول بأنه تعرف على الشرق بواسطة الغرب، بينما تعرف الثاني على الغرب بواسطة الشرق، حيث انبهر التيار الأول بالغرب باعتباره قوة وحضارة معاصرة فحاول بالتالي مجاراته، في حين بقي الثاني متمسكا بالثوابت الدينية والقومية باعتبارها مجد التاريخ والأجداد، ليتشكل "الانفصام في الشخصية المغربية" حسب تعبير الدكتور محمد عابد الجابري - رحمه الله - . لم يحاول أحد التيارين التقرب من الآخر ولا مناظرته لا شفويا ولا كتابيا في العلن، بل بقي الحوار دائما خلف الكواليس وفي الغرف المغلقة بعيدا عن أعين ومسامع الرأي العام المثقف بالمغرب والذي بدأ يتشكل للتو بعد الاستقلال.
لقد تأثرت الرؤى الإصلاحية للتعليم بالمغرب بهذا الجو المليء بالتناقض، في محاولة لوضع البلاد على مسار ما. ويدقّ الجابري - رحمه الله - ناقوس الخطر قبل أربعين عاما تقريبا، حول هذا المشكل المزمن، في مقدمة كتابه قائلا: « ... قيل الكثير، كُتب الكثير عن هذا المشكل، عُقدت حوله ندوات رسمية وغير رسمية، فاقتُرحت حلول كثيرة متتالية أو متزامنة، وفي كل مرة كان اللاحق فيها يلغي السابق أو يعدله، أو يكمله ... مع ذلك لم يزد المشكل إلا تعقيدا ... ». كلام يبدو أنه نفس الذي يُقال الآن. مضت السنون و تغيّر الزمن لكنّ خطاب الإصلاح هو ذاته. الإصلاح بعده إصلاح آخر، ثم إصلاح ما تم إصلاحه أصلا في السابق ... حلقة مفرغة هو مسار إصلاح التعليم بالمغرب أو على الأقل هكذا يسمونه. وبالرجوع إلى تعريف "الإصلاح" في معناه اللغوي، على الأقل، يتبين أن الصيرورة اللامنتهية لمسلسل إصلاح التعليم بالمغرب لا تُطابق مضمون التعريف في حدّه الأدنى. فقد ورد في "لسان العرب" في باب صلح : " ... والإصلاح نقيض الإِفساد. والمَصْلَحة: الصَّلاحُ. والمَصلَحة واحدة المصالح. والاسْتِصْلاح: نقيض الاستفساد. وأَصْلَح الشيءَ بعد فساده:
أَقامه ..." . ولا يمكن بالتالي القول على الإطلاق أن ما تم من خطوات على طريق "الإصلاح" قد حقق النتائج المرجوة منه.
لقد تنبه الدكتور محمد عابد الجابري - رحمه الله - إلى مكامن العلل بالمنظومة التعليمية بالمغرب والتي لازالت تعاني منه للأسف، حيث يمضي متسائلا ثم محاولا إيجاد بعض الأجوبة: « ... ما هو هذا المشكل إذا؟ وما حقيقته وما جوهره؟ ما هي الكوامن الخفية التي تحركه من ذاته، ومن وراء ستار؟ ... لقد اتخذ مشكل التعليم ببلادنا، ومنذ الإعلان عن الاستقلال، طابعا سياسيا واضحا، ليس فقط لأنه يمس الشعب كله، أو لأنه يقدم أحسن مطية تطرح من على متنها قضايا سياسية واجتماعية واقتصادية وثقافية، بل أيضا لأنه يعكس بالفعل اختيارات تخص هذه الميادين نفسها، ويتضمن في جوفه، ومن خلال تطوره، أبعادا سياسية واجتماعية أثرت وتؤثر وستؤثر ... ». ويحاول الدكتور محمد عابد الجابري هنا تقصي مواطن الخلل عبر ربط مجموعة من المسببات المترابطة والمتشابكة، والتي أدت بعد سبعة عشر عاما من الاستقلال آنذاك إلى إعلان إفلاسها، لأن المنظومة التعليمية لم تستطع، في ذلك الوقت، تقديم حاجات المجتمع من الأطر والكفاءات الكفيلة بضمان نمو المغرب على جميع الأصعدة. ويمكن القول أن المغرب حاليا، وبعد أربعة عقود على كلام الجابري - رحمه الله - يعاني للأسف من نفس الإشكالات، أو ربما أنها استفحلت وتفاقمت، حيث أصبحت المنظومة التعليمية تعاني مما أصبح يصطلح عليه ب "الإشكالات الأفقية والعمودية لقطاع التربية والتعليم" بعدما كانت في السابق بدون أبعاد.
ولم ينس الجابري الإشارة إلى المبادئ الأربعة الشهيرة المعلنة آنذاك: التعميم، التوحيد، التعريب، ومغربة الأطر، مبرزا عدة إشكالات لازالت قائمة لحد الآن: « ...لقد أدرك الآباء أن "المدارس" تفسد عليهم أبناءهم، فلا هم يرونهم يتخرجون بمؤهلات علمية كافية، ولا هم يستطيعون الاستعانة بهم في الأعمال اليومية ... كان هناك إذا، نفور عام من هذا التعليم، الذي لا يخرج سوى المشردين، المتمردين على العائلة والتقاليد ...يلبسون اللباس العصري، يحلقون رؤوسهم على طريقة النصارى، يدخنون ... لم يكن استقلال المغرب نتيجة ثورة، ولا وليد حرب تحريرية طويلة الأمد، وإنما كان نتيجة حلول وسطى توفيقية، كانت إجهاضا لثورة كانت في طور المخاض، فبقي النزيف، نزيف الإجهاض، يغذي المشاكل الاجتماعية والاقتصادية والسياسية إلى اليوم. »
لم يقتصر المفكر المغربي محمد عابد الجابري على ذكر المشاكل التي أصابت المنظومة التعليمية آنذاك، بل حاول استشراف آفاق السياسات التعليمية: « ... إن آفاق سياستنا التعليمية لا تضع أمام أنظارنا سوى توقعات مفجعة ومخيفة بالنسبة للمستقبل: مستقبل الأجيال القادمة ومستقبل تطور البلاد ونموها ... أليست الأمية والجهل، وبالتالي التخلف بكامل أبعاده، مصيرا محتوما لأجيالنا الراهنة والمقبلة؟ ... يجب أن نكف إذا عن جعل ماضينا منافسا لحاضرنا وعن تصور "حاضر غيرنا" نموذجا لمستقبلنا ... يجب أن نعيش حاضرنا، نغيره ونعيد بناءه ... »
رحم الله المفكر المغربي العربي الإسلامي الدكتور محمد عابد الجابري.