شغل مفهوم العدالة أذهان الفلاسفة على مرّ التّاريخ، إلّا أنّه يبقى مفهوماً غامضاً، خاصّة أنّه على أرض الواقع، لا نبالغ إن قلنا إنّ العدالة مغيّبة، أو لنقل إنّ العدالة تطبّق إمّا بشكل جزئيّ، وإمّا بحسب مفهوم كلّ إنسان للعدالة. والمفهوم يختلف بين إنسان وآخر، وبين بيئة وأخرى، وبين طبقة وأخرى. فالعدالة يمكن أن تحمل في معناها المساواة بين الجميع بالحقوق والواجبات، وأن يخضع الكلّ بشكل متساوٍ لقوانين وضعيّة؛ كأن نقول مثلاً إنّه على المواطن أن يدفع الضّرائب المتوجّبة عليه، ولكن بالمقابل أين العدالة في تطبيق هذا القانون في حين أنّ مستوى الدّخل يتفاوت بين مواطن وآخر؟ أو كأن نقول إنّه من حقّ كلّ مواطن أن يحيا بكرامة فيؤمَّن له السّكن والتّعليم والمأكل... ولكن أين العدالة إذا ما كان المسكن المؤمَّن دون الشّروط المطلوبة أو إذا ما كان المنهج التّعليميّ دون المستوى الفكري المطلوب؟ إلى ما هنالك من تساؤلات وتباينات.
لعلّ الطّغاة على مرّ التّاريخ كانوا على قناعة أنّهم يطبّقون العدالة فيما يخصّ الإبادات الجماعيّة، أو لعلّ الجماعات الدّينيّة المتطرّفة تؤمن أنّها تطبّق العدالة فيما يخصّ إقصاء المخالف لهم دينيّاً وإعدامه، أو أنّ فرداً ينتقم من آخر بالتّعنيف أو القتل على اعتبار أنّه يحقّق عدالته الشّخصيّة. بالنّسبة لونستون تشيرشيل، إمّا أن تكون عادلاً وإمّا أن تكون قويّاً، وذلك في قوله: "أجمع تاريخ البشرية على حقيقة أنّ الأمم لا تكون عادلة دائماً عندما تكون قوية. وعندما تتمنّى تلك الأمم العدل، فهذا يعني أنّها لم تعد قوية".
بالمقابل، قد يكون أقرب مفهوم للعدالة، أو المعنى الأصح لسلامة تطبيقها هو أن تفعل لغيرك ما تبتغيه لنفسك. فيقول جمال الدّين الأفغاني: "أقرب موارد العدل القياس على النفس"، وتقول إليونور روزفلت: "ليس من العدل أن تطلب من الآخرين ما لست أنت مستعداً لفعله"، وبالتّالي المقياس الممكن اعتماده لتحقيق العدالة هو الذّات الشّخصيّة للإنسان. ولكن هذا المقياس يبقى ناقصاً وغير فعّال ما لم يرتبط بالمحبّة. فما تبتغيه لنفسك هو الأفضل والأكمل، إلّا أنّك إذا حصرته في نفسك وقعت في فخّ الأنانيّة، وبالتّالي ستكتفي بنفسك دون الانفتاح على الآخر.
أن تحبّ نفسك هو أن تحترمها كقيمة معتبراً أنّ كلّ نفس أخرى هي قيمة بحدّ ذاتها وتستحقّ المحبّة. من هذا المنطلق ستمنح الآخر ما تريد أن تمنحه لنفسك على أكمل وجه. كما يمكن لهذا المنطق أن يتّسع ليشمل الجماعة كلّها وحتّى المسؤولين عنها، فالحاكم أو المسؤول أو القاضي، أو أيّ شخص موكل إليه تطبيق العدالة ينبغي أن يمتلئ من المحبّة كيما يتمكّن من إبقاء إنسانيّته متيقّظة في تطبيق العدالة. ويجب أن نوضح أنّ حضور المحبّة في تطبيق العدالة لا ينفي الحزم والصّرامة والوضوح، إنّما يمنع المساومات والرّشاوي والتّحايل على القوانين، مانحاً الكرامة الإنسانيّة الأهمّيّة الأولى والأخيرة.
حيث تكثر المحبّة تحلّ العدالة، فالمحبّة هي الدّافع الأوّل والأقوى لرفع القيمة الإنسانيّة وانتشالها من بؤسها على جميع المستويات. فأن تحسن إلى فقير على سبيل المثال ليس عدلاً، وإنّما هو إشفاق على حالته أو مساعدة له، وفي بعض الأحيان وللبعض، استثمار للسمعة إعلاميّاً وفي أحيان أخرى إرضاء لله للبعض الآخر. وأمّا العدل الحقّ فهو أن تعيش مع الفقير وتشاركه فقره فتنقذه منه وترفع كرامته الإنسانيّة. وكي لا نُفهَم خطأ، من الجيّد أن نرضي الله في الإحسان للفقراء ولكن من الإنسانيّة أن نخدم الله في الفقراء والمظلومين والمغبونين. ففي الإحسان أنت تعطي ممّا عندك، وأمّا في المشاركة فأنت تعطي ذاتك، وتلك قمّة العدل وذروة المحبّة. كما أن العدل يقضي بمحاسبة مجرم أو سارق أو متمرّد على القانون، وهذا حقّ، وأمّا ارتباط العدل بالمحبّة فهو المحافظة على الكرامة الإنسانيّة رغم كل ما يصدر عنها من أخطاء.
المحبّة أساس العدل، فعدل بلا محبّة قد يجنح إلى الظّلم، كما قد يتحوّل إلى قوّة مسيطرة تستغلّ مبدأ العدل في سبيل احتقار الكرامة الإنسانيّة. ومحبّة بلا عدل، استهتار ولامبالاة وغضّ النّظر عن الخطأ وعدم السّعي إلى تصويبه.