تمر الجزائر بمرحلة مرضية جراء معاناتها المستمرة مع استفحال الشيخوخة التي دبت في أوصالها لدرجة شلت ملكة التفكير فيها ولم تعد قادرة على العطاء. ففي الوقت الذي يشكل فيه الشباب القاعدة الكبيرة في الهرم الديموغرافي ،إلى جانب نخبة متميزة من المثقفين والإعلاميين والفاعلين الحقوقيين، فإن أمر البلاد تتحكم فيه فئة من الشيوخ يتكون أغلبهم من قدماء محاربي "جبهة التحرير الوطني" ، الذي يعتبر المشتل الرئيسي لإنتاج نخب من "السكة القديمة"، بالإضافة إلى "حراس المعبد" الذين لا يبغون عن سيده بديلا وهم طبعا العسكر. مضى الزمان الذي كانت فيه الجزائر تصول وتجول مستفيدة من التعاطف الكبير خصوصا من طرف أنظمة كذبت على شعوبها وعلى العالم وهي تعزف على نغمة "التحرر والثورة والاشتراكية.." ولم تفق تلك الشعوب من غفوتها إلا بعد أن سقط جدار برلين الذي كشف عن الفظائع التي مارستها تلك الأنظمة بعد إسقاط الأقنعة الإيديولوجية التي كانت تخفي وجهها البشع. كانت الجزائر تتحرك بطاقم من المسؤولين الشباب على مستوى أمريكا اللاتينية وإفريقيا لتغازل الأنظمة "التقدمية" فيها وتجلبها إلى جانبها في حملتها ،التي لم تتوقف منذ استقلالها، ضد المغرب . لكن هذه الجزائر لم تنتبه إلى مرور قطار التغيير الذي لم تستطع اللحاق به بسبب أنها كانت ضد التغيير وبالتالي غير مؤهلة له، الشيء الذي جعلها رهينة مقبعها المحروس بعناية من طرف محاربين قدامى . في نفس الوقت سدت جميع الأبواب والآفاق أمام نخبة متنورة مؤهلة للتعامل مع التغيير المطلوب، وشباب تواق إلى العمل عصف النظام بكل آماله وضربها عرض الحائط ، ليظهر "جيش" من "البطالين" و"الحائطيين" يرى خيرات بلده تذهب سدى من أجل قضايا خاسرة. لكن النظام عوض أن يجلس إلى الأرض للتفكير والتأمل فيما جرى ويجري من حوله ، فضل ركوب رأسه وخصص ميزانية ضخمة لشراء الأقلام والأصوات والذمم ، وكسب دعم منظمات سياسية وحقوقية من أجل هدف واحد أصبح يشكل لها هاجسا قويا يتمثل في أنها القوة الإقليمية الوحيدة في منطقة شمال إفريقيا والساحل والصحراء التي تستطيع درئ مخاطر الإرهاب والتطرف من دون أن تدري أن "البوليساريو" الذي أشرفت على صناعتها ورعايتها ودعمها بالذخيرة والذخائر ستخرج من ضلعها لممارسة الإرهاب مع أهله في المنطقة. شيخوخة النظام هي التي جعلته يجلس على حقول كبيرة من ثروات النفط والغاز في الوقت الذي لا يستطيع فيه هذا النظام تأمين الماء والكهرباء للعاصمة نفسها، وفي الوقت الذي تعرف فيه الجزائر تصاعد الغلاء في مختلف المواد، وارتفاع وتيرة الفقر والبؤس والبطالة بشكل غير مسبوق. أكثر من ذلك بدأت المطالب ترتفع في عدد من الجهات بتمتيعها بالحكم الذاتي على غرار المزابيين والطوارق في الجنوب وقبلهم في منطقة القبايل . ولم يقف الأمر عند هذا الحد لتندلع نزاعات ومواجهات سرعان ما أخذت طابعا عرقيا طائفيا خطيرا. والشيوخ والمحاربون القدامى وحراس المعبد يتابعون الأحداث، وكأنهم يتابعون مسلسلا تمثيليا، غير عابئين بأن النار التي أوقدوها امتدت إلى مواقعهم المحروسة. بالرغم من تصاعد حدة الأصوات التي تطالب بالتغيير من أجل مستقبل أفضل للجزائر والجزائريين ، واللحاق بمسيرات الجيران والانخراط معهم في بناء الصرح المغاربي على أسس متينة وواقعية، فإن شيخوخة الفكر والسياسة والإبداع لدى المحاربين القدامى وحراس المعبد تأبى إلا أن تظل هي المسيطرة والحاكمة بأمرها وسط منطقة تتغير وتسير بخطى ثابتة نحو المستقبل.