رضوان بليبط
الأفضية التي تأسرنا منذ الوهلة الأولى وتسحرنا حد الجنون، تطاردنا عبر الزمن حينما تبتلع الحوادث ذاكرة النسيان.إنها تستهوي الألباب، وتلفح الذاكرة، فلا نكاد ننعتق من كبول عشقها رغم تكاليف الحياة و قسوة الدهر. من منا لا يتذكر فضاءات الطفولة و ما تحمله من دلالات ؟ الدرب،الزقاق، المسجد، ديار الجيران و الأقارب، المقبرة...؟ بيت الطفولة ضارب في أعماقنا بجذوره حتى النخاع، لا يبرح مخيلتنا،في أحلام يقضتنا نعيشه ونتفقد خباياه. الفضاء بصمة إصبع لا تتكرر ، تماما كباقي الوشم في ظاهر اليد، فكأن الأفضية التي مررنا بها تهدينا باقة ذكريات.
من أعماق الذات المبدعة يستحيل الفضاء ملاذا يحتمي به السارد والشخوص المشاركة في الأحداث.الدفء الذي يخلقه الفضاء للسارد وللشخوص وللقارئ، في غمرة الدفق السردي،هو ما يفسر أهمية الأفضية في الأعمال الروائية. ويبدو أن ذكريات فقد الفضاء هي ما يحرك خيال الروائي العربي، ويدغدغ مشاعره المنكسرة ،حتى أضحى عشق الفضاء سمة من سمات الكتابة لدى ثلة من الروائيين العرب، عشق يبلغ حد تأجيج الشعور بالاشتياق إلى الأفضية التي ما فارقت مخيلة المبدع، ليجد في الكتابة متنفسا يمد من خلاله جسور الوصال المصرومة في لاوعي المخيلة المبدعة.
في رواية "القاهرة الجديدة" (1945 ) يحتفي نجيب محفوظ احتفاء خاصا بالفضاء،ما يشي بعشق دفين للأفضية، فمن خلال شخصية "إحسان"،يصور محفوظ دفء بيت الطفولة وحميميته،في مقابل قسوة الأفضية الخارجية التي تتحرك فيها هذه الشخصية، بل إن إحسان شحاتة تستحيل إلى رمز لفضاء القاهرة، تلك المدينة القاسية على أبنائها قسوة أم إحسان، في زمن سقطت فيه كل القيم الإنسانية النبيلة.
ثنائية الفضاء/المرأة تغري بالاستنطاق فيما كتبه نجيب محفوظ، ففي رواية"زقاق المدق" (1947 ) تحضر المرأة باعتبارها فضاء، من خلال "حميدة" التي ترمز إلى الوطن مصر.وفي "بداية ونهاية" تتكرر هذه العلاقة القائمة على مبدإ التقاطب الثنائي ،مع شخصية "نفيسة" التي تضحي من أجل الآخرين،ثم تقدم نفسها قربانا للموت على ضفاف النيل وهي منكسة الرأس، وقد كان الفضاء مقفرا،وبأنين ريح باردة تناوحت الغصون (ص251 ).إن فقد حميدة و نفيسة فقد للوطن الضائع ضياع إنسانية إحسان شحاتة،هذا الضياع سيتكرر ليس من قبيل الصدفة – مرة أخرى في "اللص والكلاب"، في علاقة نور الساقطة بالمجتمع،وهي علاقة تبرز الامتهان والابتذال اللذان تتعرض لهما المرأة المصرية،على الرغم من أن الزمن زمن ما بعد الثورة.تصور نور فضاء طافحا بكرونولوجيا المعاناة اليومية جراء العمل الليلي الذي يعج بالمخاطر الناجمة عن مطاردة الكلاب من بوليس وأوغاد،وتوحي علاقتها بسعيد مهران،أنها أيضا ترمز إلى الفضاء/مصر في عهد الظلام و الظلمات،ذلك أن محفوظا يتدثر بالمرأة للتعبير عن رؤيته الأيديولوجية المخبوءة تجاه الأوضاع في مصر وقتئذ،فهاهو يقول حينما غابت نور على لسان مهران" هل تهتز شعرة في الوجود لضياعها؟" (ص193 ) .
ضياع الفضاء الذي يعكر صفو الأحداث يثير الانتباه أيضا في روايات محمد برادة عبر نوستالجية مغرية،تثير الشهوة إلى بيت الطفولة في علاقته بالمرأة/الأم،إذ يقول محمد برادة في "لعبة النسيان" (1987 ) :هذه الدار بدون لا لا الغالية ستفقد نكهتها" (ص11 ).إن الدار الكبيرة في لعبة النسيان تمثل في أبعد تجلياتها الوطن/المغرب ،لما تتيحه من حماية للمقاومين المغاربة إبان الاستعمار الفرنسي الذي اغتصب الأفضية،ويبدو أن هذا الاغتصاب لا يزال مستمرا ،وإن تغيرت ألوانه،لذلك ووريت لالا الغالية/الأم الثرى في المحكي البدئي،وانبعثت لالا الغاية/المغرب في اللحظات التي لفظ فيها السرد أنفاسه الأخيرة،حينما يقول السارد: "أمي، سترين أنني أنا من يحبك أكثر.سأصيح ملء القلب والفم والكيان منشدا لك:عشقي فيك مؤبد.وآخذك من يدك لأرتاد مفاتن العين والقلب .بلا حدود،بلا أسيجة." (ص134 ) . غير بعيد عن لعبة النسيان نرتاد عالم "الضوء الهارب" (1993 )،الذي ينضح بالهروب الدائم من الأفضية القاسية،هروب تلبد بغيوم التيه والتوحد والعزلة،التي عكرت صفو حياة العيشوني جراء فقدان الفضاء/طنجة: "لا أستطيع العيش بعيدا عن البحر، ليس أي بحر بل بحر طنجة (72 ).إن العيشوني ما هو إلا وجه آخر من وجوه برادة الذي يعبر عما يختلج في اللا شعور من عشق لطنجة،عشق يبلغ ذروته وقد ابتعد عن هذا الفضاء الحميمي صوب مراكش التي تتعين فضاء خارجيا مفعما بالغربة الكاسحة التي يمكن اعتبارها قاسما مشتركا بين الشخصيات الرئيسة،إذا ما أخذنا بعين الاعتبار شخصيتي"غيلانة"و"فاطمة" اللتان أدمنتا على السفر هروبا من الواقع المرير، وانفتاحا على اللامتناهي. هذا الانسكان بالبحث عن عوالم مجهولة لا تعرف الشخصيات طقوسها وممارساتها،يجعل منه محمد برادة تعلة لتعدد الأفضية التي ما فتئت تترنح عبر جسد الكتابة،إذ لا مجال للاستقرار.
الفضاء في الرواية العربية يغدو مرادفا للاختناق والمحاصرة والضيق في ذاكرة الشخصيات الرئيسة ، وملمحا من ملامح البحث الدائم عن الفضاء المثالي الذي يحدد سمات الشخوص ويرسم مساراتها ويمدها بعمقها الإنساني،وبرمزيتها الأنطولوجية،ويعكس تفاصيل معاناتها اليومية.