يبدو هذا السؤال غامضا ومستفزا، لكن بمجرد إسقاطه على واقع أمتنا العربية وحال المواطن العربي حتى تبدأ تباشير الوضوح تعمّ السؤال وتزيل عنه ضبابية اللبس والإبهام. إذا كان نائب الفاعل في اللغة العربية ينوب عن الفاعل ويصبح بقدرة قادر فاعلا، فلماذا لا يُعربُ المفعول فيه فاعلا هو الآخر؟ قد تحتاج الفكرة إلى إيضاح أكثر؛ إذا قلت مثلا: "أُهِينَ الشعبُ"؛ يُعرب الشّعب نائب فاعل، ويصبح المعنى: "الشعب ناب عن غيره في إهانة نفسه". وإذا قلت: "أُفْسِدَ الشّعبُ"؛ كان المعنى: "الشعبُ ناب عن غيره في إفساد نفسه". كذلك هي السياسة العربية كلّها مبنية للمجهول، ونائب الفاعل يعمل عمل فاعله دون ترخيص من أحد.
أمّا عن المفعول فيه، فتلك قصّة أخرى. المتتبع لحال الشعوب العربية، عامة، يلاحظ مدى التخلف الذي يلازمها في شتى الميادين الفكرية والأخلاقية والسياسية والثقافية وغيرها. انتشر فيها الفساد وعمّ الظلم، وبرزت في أوساطها آفات كثيرة، حتى ناءت بها الحمل. خذ مثلا: كثرة الأوساخ بأحيائنا، ورميها دون اعتبار لحرمة المكان ولا للذوق العام، فالمواطن لا يجد حرجا في رمي أوساخه أمام المساجد أو المدارس أو أمام المطاعم، وقد ترمى أحيانا في الحدائق العامة. إنها ثقافة ولّدتها العادة وانعدام العقاب. فمن الحريات التي افتكها المواطن العربي من النظام الذي يحكمه، حرية سبّ الذات الإلاهية والكفر بنعمه، ورمي الأوساخ في أيّ مكان، الشجار في الأسواق، السرقة والنهب، تبادل الشتم بين أهل الطوائف والمذاهب، وبين أفراد الحيّ الواحد، وغيرها من الحريات المعبرة عن سوء الخلق وقلة الوعي وضعف البصيرة. كلّ هذا يقع أمام مرأى من السلطات العمومية ولا تحرك ساكنا، وتغضّ الطرف، وكأنها غير معنية بما يحدث. وعندما تشعر السلطة العمياء عن هذه الآفات بأنها تجاوزت الحدّ، ولا بدّ أن تتدخّل لعلاج الأمر قبل خروجه عن سيطرتها، تقوم بتحميل المسؤولية للمواطن، فتهدده بالعقاب إن لم يرعوِ عنه ويكفّ.
إنّه الفاعل الذي يحلّ محلّ المفعول فيه؛ الفوضى الخلاقة يصنعها النظام، ثمّ يلقيها في الشارع ليحتضنها الشعب وتنتشر كالنار في الهشيم، لأنّ شعوبنا العربية لم تعرف منذ خروجها من نفق المستعمر الغربي فترة للتثقيف والتوعية ومعرفة معنى المواطنة، وحقوق الآخرين، طريقة الحوار، الإيمان بحقّ الاختلاف في الدين واللغة والتفكير.. إنّنا مجتمعات من صنع أنظمتنا القمعية في الأخلاق والسلوكات اليومية، وطريقة التفكير. وبتعبير آخر نحن مجتمعات مفعول فيها، فكيف تتحول إلى فاعل يتحمل مسؤولية فعله؟
إنّها لا تزر وازرة وزرَ أخرى، وهذه حقيقة لا ينفيها إلا جاحد، لكن، ما قول الوالد الذي أساء تربية أبنائه، أيحقّ له تجريمهم عمّا كان هو سببا فيه؟ وما قول الحاكم الفاسد الذي داس على معتقدات الشعب فألقى بالقيم الأخلاقية في سلة المهملات، وقرّب الدنيء وأبعد الشريف، ورفع الجاهل وأحطّ بالعالم، أيحقّ له تحميل الشعب مسؤولية فعله وهو مفعول فيه؟ ومن المسؤول عمّا يقع اليوم بسوريا والعراق ومصر والبحرين، هل هو المفعول فيه، الشعب المسكين، أم المبني للمجهول، اليد الأجنبية، أو التدخل الأجنبي عن طرق العملاء والمندسين والخونة؟ أم الفاعل، النظام الحاكم، السلطة المستبدة الجاثمة على رقاب الشعب؟
إنّ الأنظمة العربية تسعى لوضع منظومة أخرى لقواعد اللغة العربية، تصبح فيه المفعولات بأنواعها؛ المفعول به، المفعول المطلق، المفعول لأجله، المفعول معه، المفعول فيه، كلّها تعرب فاعلا، والفاعل الحقيقي يختفي في جلابيب نائب الفاعل. أليست السياسة هي فن الممكن؟ والسياسة العربية واضحة لا تحتمل التأويل ولا الخطأ؟ في الماضي كان سبب تخلفنا نحمله للمستعمر الغاشم، ومصائبنا نحملها للصهيونية والإمبريالية، أمّا الآن، فقد حان للمفعول فيه أن يتحمل مسؤوليته أمام التاريخ؟