رضوان بليبط
يلفت الانتباه آن تصفح العدد الثالث بعد المائة من مجلة دبي الثقافية،مقال آثر الناقد العربي جابر عصفور نشره في هذه الظرفية الحساسة التي يعيشها الشارع المصري.يسلط المقال الضوء على الملكية السويدية،على الرغم من تدثره بظاهرة الانتحار في السويد بسبب الرفاهية التي أرهقت النفوس.
من الجلي أن صاحب المقال منشغل بالأوضاع السياسية في بلاد الأهرام، غير أنه يصدر عن خلفية أيديولوجية محايدة في زمن لا يمكن البتة أن يتموقع فيه الكاتب إلا مع أو ضد، وليس مع وضد في وقت واحد، لكن جابر عصفور لا يضع البيض في سلة واحدة.هذا المقال المخبوء خلف جمالية أفضية السويد الخلابة، وبخاصة قصر الملك وشوارع مدينة "جاملاستان" الباردة برود الإنسان الأسكندينافي، لم يحل دون تلميح الكاتب غمزا إلى الواقع المصري. يراوغ جابر عصفور، ويتظاهر بوصف الملك "جوستاف" الذي اختار السويديون بقاءه عبر استفتاء حرّ نزيه، ليطرح أسئلة كبرى بعضها ظاهر والآخر متوار خلف تجاعيد الكتابة وأنفاسها المرهقة:هل كان السادات أو مبارك ليقبلا الاستفتاء على بقائهما ؟ ولماذا اختار السويديون بقاء الملكية ؟ أسئلة من هذا القبيل قادرة لا ريب على زعزعة المعتقدات التي تعفنت في ذاكرة الإنسان العربي، فالأسئلة وحدها تبقى خالدة حينما تبتلع ذاكرة النسيان الأجوبة.
يقارن عصفور بين القصر الملكي في "جاملاستان" المفتوح للزائرين، و بين مقر السادات الذي تنغلق كل الشوارع التي تحيط به من كل اتجاه. يتوسل الكاتب بالفعل المضارع ،رغم أن عهد السادات ولّى منذ زمن بعيد، إذ إن الشوارع تنغلق على حد تعبيره لا انغلقت في الماضي، ثم يسترسل في السرد قائلا: "ووصل الأمر إلى إطلاق الرصاص على شاب اقترب من باب القصر في عهد مبارك "، ليقول بعد ذلك"ربما على سبيل الخطأ " .فعبارة "ربما" هي التي يسوّغ بها دكتاتوريو العالم الثالث قتل الآخر أو قل على الأقل اضطهاده ونفيه إلى الخارج،و" ربما" تقودنا إلى التساؤل عن احتماء عصفور وراء جدران اللغة المخاتلة، وجنوحه إلى التخفي و الاختفاء من المشهد المصري الراهن، حتى بلغ به الأمر الاكتفاء بإعادة قراءة سفر الذكريات وتقليب ألبوم الصور..؟
حينما يكتب الكاتب بلغة المضارع آن سرده وقائع مضت في عهد السادات أو مبارك، فإنه يروم لفت الانتباه إلى" المشير" الجديد الذي فوّض نفسه على شعبه، ودفع الدبابة إلى الشوارع والساحات،تحاصر المساجد والجامعات والمستشفيات، وتقتل كل معارض و تحرّق كل جثة هامدة أو شاهدة على مرارة الديكتاتورية.
لا غرو أن التفويضية التي يحكم بها الشعب المصري،منذ خطف رئيسه المنتخب وفق الأعراف الديمقراطية، هي نظام عربي جديد حلّ محل الديمقراطية والملكية والاشتراكية ،وهي نظام لا يستدعي نسبة المشاركة في الانتخابات،ولا يكترث لأصوات الأغلبية من الناخبين،ولا يمتح من المرجعيات القانونية،ولا يرتهن إلى قوة الشعب الذي من المسلم أن يحكم نفسه بنفسه.
مصر اليوم تعود إلى عصر الفتوة الذي تفوضه الجماعات الخاملة من الأعيان و الأثرياء،لكن الفتوة في هذا الزمن الختّال يتقنع بقناع جديد يواكب تطورات العصر الحديث،إنه يجند وسائل الإعلام السمعية والبصرية والورقية والإلكترونية لإسكات صوت "الحرافيش".دستور "التفويضية" باعتبارها نظام حكم يدين للعرب ببراءة الاختراع،هو سلطة العسكري وتبختر الدبابة في الشوارع،فما أكثر الأمصار العربية التي تحكمها التفويضية و تدين للدبابة بالخنوع والركوع .لكن هذه الفكرة تفضي بنا إلى التساؤل : هل ارتكن المصري إلى الخنوع؟
المصري ما فتر ولا خنع لسلطة من فوّض نفسه على الأغلبية،المصري ما فوّض الجلاد ليقتّل ويحرّق ويتعسّف ويعتقل بنين و بنات،وصبية وكهولا.هذا هو نبض الشارع المصري رغم السحل والصعق...
كان الأجدر بالدكتور جابر عصفور أن يطل علينا هذه الإطلالة من برج الحقيقة المشرقة عوض التدثر بشمس السويد الآفلة ،لأن الحقيقة التي تواطأ مثقفو مصر على هضمها لا يمكن البتة طمسها بذريعة التفويض، وافتراء الإعلام وتخاذل المثقف.
نلفي أنفسنا في الأخير ننزلق إلى سؤال بقي بدون جواب ،ما المسوغات التي تفسر احتماء مثقفي مصر بالذئب واتخاذه ردءا؟ أليس من استرعى الذئب بظالم؟