رضوان بليبط
سؤال الكتابة أرّق الكتبة قبل أن يؤرق النقدة، فالكتابة في معاجمنا العربية تحيل على ضم الحرف إلى الحرف، ومثلها في ذلك القراءة.
في اليوم الذي نكتب فيه هذا المقال،عادت لعترها لميس، إذ إن كثيرا من المنابر الصحفية التي تعرض ما يكتب، باتت تميز الكاتب اللامع الشهير عن المبدع الشاب أو "المبتدئ" بالمنطق المتداول.فالأسماء عادت للخلود من جديد، والفحولة التي طوى صفحاتها عشاق النقد الثقافي أو "رواده" إن صح التعبير، مافتئت تعود لتتجذر في عقلية النخب المثقفة بالعالم الشرقي،ليصبح اسم الكاتب مسدسا عامرا بالرصاصات الطائشة.
كان المتقدمون لا يقبلون كل جديد لأن صاحبه محدث أو موّلد ،والمولّد من لا أب شرعي له، إنه ابن الحرام.حتى ضروب الأدب التي تعكس الثقافة الشعبية أو تتماثل معها، كانت مستبعدة منذ الزمن الذي كانت فيه الدولة العربية دولة ترف ومجون ، كان للأثرياء و أهل السلطان أدبهم الرفيع ،وكان للعامة "اللا أدب" لأن "العامي" هو الأمي. لذلك فالنصوص الشعبية أدب ذوي العقول السخيفة من الظرفاء والنساء والصبية و حتى إخوان الصفا.
في زمننا، زمن ما بعد الحداثة أو هو زمن "ضد ما بعد الحداثة" ،تتعين الكتابة عادة ، لا أدري إن كانت سيئة أم العكس،فاسم الكاتب وحده يلفت انتباه القارئ ويغريه،ويستدرجه للإقبال على القراءة.تتحول الكتابة سلعة اقتصادية رائجة أو كاسدة، حتى الكاتب يلفى نفسه مضطرا لالتزام العادة ، مكرها ربما ؟ لذلك يبدي العديد من الكتاب عدم رغبتهم في اجترار الكتابة و تكرارها ،ولعل هذا ما عبر عنه المبدع أمير تاج السر في مقاله الموسوم ب"إعادة الكتابة" الذي نشرته مجلة "الدوحة" في عددها التاسع و الخمسين.بل إن الكاتب يذهب إلى أبعد الحدود في العدد الثالث والسبعين من نفس المجلة عندما يفضل، في نهاية مقاله الذي يحمل عنوان:"جدوى الحوارات"،أن ينشغل الكاتب" بإبداعه،يحاور نصوصه،يفرح معها،و يكتئب معها،من أن ينشغل بترديد الكلام نفسه،في كل مرة،ويأتي يوم يسأم فيه حتى متصفحو الصحف،وسياح الصفحات الإلكترونية،من وجهه و حديثه".
الكتابة لا تقف عند الحدود، حدود العتبات.الكتابة إيقاع مثل النفس المتقطع ،و الكاتب لا يكتب إلا لحظة الاختناق الذي قد يفضي إلى الجنون.لا منطق للكتابة الإبداعية ،فحينما تنفلت من قيود الواقع و رقابة السلط كلها قد تكتب...
والقراءة انبعاث الكتابة من الرماد الجاثم على صدر الورق، إنك حينما تعيد كتابة المكتوب تملأ الفجوات والبياضات التي يعج بها الورق و تضخ الحياة في الحبر الدفين بين دفتي الكتاب. القراءة ليست نصا مكبولا، والتزام الكاتب بكتابة مقال أسبوعي أو شهري لفائدة مطبوعة سواء أكانت جريدة أم مجلة ،يكبّل نفس الكتابة والقراءة معا، ويسيّج جسد الإبداع التواق إلى الحرية.
المنبر الإعلامي مهما كانت طبيعته قد يتعين سلطة تتمفصل في كيان الكتابة والقراءة ،وكل ضروب السلطة تسيّج النصوص و ترخي سدولها عل نزهة القارئ المسافر في الأفضية الورقية التخييلية.القارئ المتمتع بلذة القراءة، وهسهسة الكتابة ،ليس القارئ المقصود و لا هو القارئ المفترض، إنه "القارئ المشتهي"، نسمه بالمشتهي لانشغاله الدائم بالخصيصات النوعية التي تضفي المتعة والغبطة في الذات المتلقية للخطاب الإبداعي ، و أيضا لانبهاره بجمالية النص.السر المكنون خلف جمالية الكتابة والقراءة هو الصدمة التي تفاجئ القارئ وتستدرجه للمشاركة في اللعبة ،لعبة الكتابة.
حرية الكتابة والقراءة لا ترتهن إلى الالتزام بعمود صحفي ،يتحول مع الزمن إلى ضرب من ضروب الاجترار و التكرار المفضيين إلى الرتابة التي تولّد الملل.رونق الإبداع هتك القناع عن اللامألوف وعن أسرار وأفانين التعبير آن القبض على صور الواقع المتبدية للحس ،و الكشف عن جوانبها الخبيئة التي لا يفطن إليها الإنسان العادي،من أجل خلق عوالم تخييلية، تعيد القراءة لملمتها وترتيب احتمالات بروزها إلى الوجود