لقطر في الذهن المغربي رنين خاص، بل خاص جدا. هذا البلد كان بالنسبة لنا بلدا يشبه البلدان الأخرى الشقيقة، ولم يكن المغربي يميزه عن دول الخليج الثانية إلا بصعوبة شديدة. نذكر منه في الأيام السابقة والخوالي “الريان” النادي الشهير ونجمه مفتاح. نذكر ماعرفناه وقرأناه عن البلد الذي انتقل في لحظة من اللحظات من بلد عادي إلى بلد استثنائي، نتذكر تلك المجلة ذئعة الصيت التي كانت تصلنا من الدوحة والتي كانت تسمى “الصقر”. بها عرفنا أسماء ثلاثة من الصحافيين المغاربة الذين سينشؤون فيما بعد جريدة “المنتخب”..
كنا نعرف قطر مثلما نعرف دول الخليج الثانية وكفى. ثم أتت “الجزيرة”.
المغرب ليس بلدا طارئا في الحياة. هو بلد متجذر في التاريخ. قدمه من قدم أهله وعتاقتهم، وهو في الحضارة وطن من حجر وحديد، ساكن في أطناب الأيام الماضية، متوغل في البقاء دوما على سطح الأرض منذ أن بدأت البشرية، بل قل ربما قبلها. لذلك صعب على الناس في المغرب أن تعاملنا “الجزيرة” معاملتها للبقية.
لا نستكثر على القناة التي تبث من قطر برامجها أن تكون أجندتها مشتغلة على جعل البلدان تتشابه. لكننا نرفض أن نصبح من البقر الذي يتشابه على الناس. لذلك كان إصرار المغاربة منذ اللحظة الأولى لبدء عمل هاته القناة واضا وجليا: لسنا مثل الآخرين. فقط إفهموا هاته المسلمة، وإثر ذلك ستتضح لكم كل الأمور.
لأسباب عديدة ليس هنا أوان تبيانها، بعد أن انقشع كثير من سوء الفهم الكبير، لم تقبل الجزيرة هذا الأمر. استمرت تحاول مع المغرب مثلما حاولت مع دول أخرى لا تشبهه، ولا يمكن أن تشبهه. وواصلنا نحن بنفس العناد المغربي الشهير، إشعارها أنه من غير الممكن لها أن تلعب بنا لعبة عود الثقاب الشهيرة، وأننا سنستعصي كثيرا عليها، مثلما استعصينا على الخلافة العثمانية الكاذبة قبل الزمن بزمن كثير، يوم قلنا للسلاطين العثمانيين حين طلبوا من المغاربة الدعاء لهم في المساجد “إذهبوا للعب بعيدا فلدينا سلطان أمير للمؤمنين ندعو له ولا نعرف أحدا غيره”.
امتد الأمر لسنوات وسنوات، ولعبت لقناة لعبتها الشهيرة، بالمباركة الأصولية الشهيرة، وباليد الداخلية التي امتدت هنا لكي تقول إن “دولارات كثيرة تحت الطاولة تنتظر المهرولين”، وبقي المغاربة: الشعب، على نفس الصباغة الأولى رافضين أي لعب بالبلد، مميزين بشكل واضح وجلي بين “دولة” الجزيرة وبين دولة قطر، معلنين ألا مشكل لهم مع القطريين شعبا وقيادة، وأنهم أساتذة في التمييز الجيد وفي قراءة مابين السطور.
وكذلك كان: الصبر المغربي آتى أكله، وقطر التي راهنت على التشبيب وعلى منح السلطة لتميم فهمت الدرس المغربي جيدا، وربطته بدرس قطري لا يقل عنه روعة هو درس اختيار المستقبل، ودرس تسليم الشباب المشعل من أجل الانتفاع من خيرات البلد الطبيعية، ومد اليد للشعب لكي ينتفع هو الآخر من كل ماجادت به الأرض.
رفعت دولة “الجزيرة” يدها عن المغرب وقد بدا لها أن الأمر غير ممكن نهائيا ولا يجوز. ومد المغرب حينها الأيدي كلها إلى القطريين قائلا “كنت دائما إخوة وستظلون”. واليوم ومع الزيارة الرسمية التي يشرع فيها سمو الأمير تميم للمغرب نحس أن الصبر يعطي دائما نتائجه، وأن الغلبة تكون للعقل المتفتح المسامح القادر على فهم المصلحة أين توجد، والمصر دوما على أن البقاء هو للهدوء وللتحكم في المشاعر، وللإبقاء على خط الرجعة إلى أن تستقيم الأمور وتستعيد كل ألقها والتميز.
لذلك نقولها اليوم بالصوت المرفوع: ما يقع في قطر أمر مفخرة للعرب كلهم.
البلد الذي أصبح من اللاعبين الأساسيين في الرقعة الإقليمية والدولية هو بلدنا جميعا، ويده الممدودة لنا هي يد عربية أصيلة لا يمكن إلا الشد عليها بقوة، واحتضانها واعتبارها قامت بالخطوة السليمة التي لطالما انتظرناها نحن هنا في المغرب لعلمنا أن الأطراف الخاريجة والداخلية التي كانت تلعب لعبة التفرقة هي أطراف لن تكون لها الكلمة النهائية أبدا.
اليوم لانفتح فقط صفحة جديدة مع قطر والقطريين، بل نواصل كتابة الصفحات التي فتحت نفسها بنفسها منذ أشهر عديدة، والتي فهم بموجبها الطرفان أن المستقبل هو مستقبل التعاون والتكامل والاستفادة المتبادلة من مقدرات ومواهب وملكات كل بلد على حدة .
والحقيقة هي أن المغرب وقطر من خلال هاته الزيارة الرسمية لسمو تميم، لكن أيضا من خلال كل الخطوات السابقة لمحو كل أثر لسوء التفاهم الفارط، يسجلان درسا إقليميا قابلا للتقليد، ضروري المتابعة، وأساسي الأخذ كنموذج لأن القدر في النهاية اليوم هو قدر التصالح والتعاون، لا قدر اصطناع الخلافات وتتبع مساراتها الفارغة التي لن تحمل أيا منا إلى أي شيء طيب.
بالصوت المغربي العام وباللسان المتوغل في هاته الأرض يقولها المغاربة كلهم لسمو الأمير القطري هذا اليوم: مرحبا بك في بلدك. مرحبا بك في المغرب العظيم.