بسم الله الرحمان الرحيم
إن مفهوم الإصلاح في السجون، أو المؤسسات الإصلاحية، يعني مساعدة المختصين الاجتماعيين والنفسانيين، وغيرهم من ذوي الاختصاص والعلاقة المباشرة برعاية السجناء على إحداث تغيير في السلوك وفي الشخصية.
فالسجن مبني على ازدواجية التناقض وهي وضعية يعاني منها السجين والموظفون، مما ينتج عنه حقائق واقعية مرة، أي أن التأهيل يتعثر في تطوره بخاصية مجتمع السجن الذي أصبح يصلح لكل شيء إلا التأهيل.
جوهر المشكل إذن، يكمن في أن الظروف التي تنفذ فيها العقوبة السالبة للحرية، وأسلوب تنفيذها جعلا السجن فضاءا لاغتصاب حقوق المحكوم عليه، مما جعل الجميع: فقهاء، قضاة، محامون، وسائل الإعلام، الرأي العام... يتفق على طرح السؤال الكبير لماذا يصلح السجن؟
تكمن إشكالية هذا السؤال أنه لم ينصب على المشاكل المتعلقة بدور السجن وإنما على العقوبة السالبة للحرية.
فمنذ سنة 1945، أصبح الهدف الأول من العقوبة السالبة للحرية هو تأهيل المحكوم عليه ومن ثم أصبح السجن فقط لتقييد الحرية لا غير.
السؤال يصبح واجبا إذا عرفنا أن تنفيذ العقوبة أصبح منذ سنة 1999 يخضع لقانون جديد للسجون مبني على المعايير الدولية لمعاملة السجناء، و التي تؤكد بالدرجة الأولى على قاعدة معاملة السجين معاملة إنسانية، أين نحن من هذه القاعدة؟
نستطيع القول أن وضعية السجون ببلادنا لم تعد في حاجة إلى بحوث ميدانية أكثر مما هي في حاجة إلى زرع القانون داخل السجن، صحيح أن الاكتظاظ، رواج المخدرات، العنف، الشذوذ الجنسي...، أوضاع تشكو منها جل سجون العالم، لكن تقارير المرصد الوطني للسجون واعترافات بعض المحكوم عليهم والحرائق التي عرفتها سجوننا فيما مضى، تعلن أن وضعية السجون معضلة يجب التعامل معها بجدية مطلقة.
قد لا تستطيع تجاهل أن هناك إرادة قائمة لإصلاح الوضع من أعلى سلطة في البلاد، فقرار جلالة الملك محمد السادس نصره الله بإحداث مؤسسات لإدماج نزلاء المؤسسات السجنية ومراكز الإصلاح والتهذيب للأحداث الجانحين وحماية الطفولة يأتي لينضاف إلى لبنات الإصلاح الاجتماعي والمؤسساتي ببلادنا، مما سيؤدي إلى تيسير عودة هؤلاء الجانحين إلى المجتمع أسوياء منخرطين في النسيج التنموي لمحيطهم، ونبراسا للمديرية العامة لإدارة السجون لعقلنة وترشيد مجهوداتها التقليدية والحديثة وتوسيع آفاق طموحاتها كالتفكير في إيجاد بدائل للعقوبات السالبة للحرية.
أما تبني سياسة عقابية تتحدد من خلالها الوضعية القانونية للمحكوم عليه، لا يتحقق إلا حينما ندرس إشكالية السجن ضمن خطة سياسية، اقتصادية واجتماعية، أي حينما تصبح سجوننا محور النقاش في البرلمان، في الصحافة، الرأي العام، ولا يتأتى هذا إلا بتشخيص لواقع المؤسسات السجنية.
يذهب التوجه الحديث إلى صياغة عناصر المعاملة العقابية في عبارة حقوق المحكوم عليه، وهو أمر مقبول ما دامت هذه المعاملة تقتضي في واقع الأمر تمكين المحكوم عليه من ممارسة إنسانيته بكل الحقوق التي لا تتعارض مع عقوبة سلب الحرية ذهابا وإيابا.
فغياب الشرعية عن مرحلة التنفيذ هو في الواقع جزء من إهمال كلي لهذه المرحلة، فجل التشريعات لم تهتم بتحديد وضعية المحكوم عليه، لأن المشرع نادرا ما يهتم بتحديد التفاصيل الدقيقة لمرحلة التنفيذ بالرغم من أهميتها.
قديما، كان تنفيذ العقوبة السالبة للحرية مسألة ميكانيكية، حيث كانت الحياة داخل السجون مجرد قضية إدارية، ولهذا فتنظيم جيد كان كافيا لتغطية مرحلة التنفيذ كلها، أما اليوم فالنظام العقابي أصبح مسألة عملية تجريبية عن طريق إعطاء وظيفة جديدة للجزاء الجنائي وهي تأهيل وإصلاح المحكوم عليه، مما يتطلب حتمية تغيير جذري في مرحلة التنفيذ بين متطلبات الزجر وطموحات الإصلاح، من هنا كان لتطور مفهوم الجزاء أثر قوي على تطوير مضمون التنفيذ، وبالتالي الاهتمام بوضعية المحكوم عليه.
يذهب بعض الباحثين إلى أن تعبير الوضعية القانونية للمحكوم عليه أدق من تعبير حقوق المحكوم عليه، انطلاقا من أن الاعتراف بالحقوق لصيق بحق ممارستها. في حين أن تقييد الحرية يضع شروطا لممارسة هذه الحقوق.
لكننا نعتقد أن التحديد القانوني لوضعية السجين لم يتم تناوله بطريقة موضوعية إلا حينما تم تحليله في إطار التساؤل التالي: كيف تفسر الدولة الديمقراطية تقييد الحرية؟ حيث تم الاقتناع بأن عقوبة السجن إذا كانت تنحصر في تقييد الحريات فقط فإن هذا الوضع لا يتطابق مع الواقع الملموس، فالسجن لا زال يعتبر كجزاء وليس كوسيلة للتأهيل وإعادة الإدماج.
ومن ثم فإن السجن يجب أن يكون فقط فترة لتقييد الحرية لا غير، لأن أصعب إجراء تتخذه الدولة الديمقراطية هو تقييد حرية الإنسان، لذلك علينا أن نعرف أنه من الصعب حرمان إنسان من حريته حتى لو كان الإنسان قد ارتكب جريمة حقيقية، يجب أن نضعها نصب أعيننا حتى نتجنب دناءة الحياة اليومية للسجين التي لا زالت تعرفها معظم سجون العالم، ولا سيما وأن فكرة حقوق المحكوم عليه هي جزء لا يتجزأ من منظومة حقوق الإنسان.
وفي هذا الإطار انخرط المغرب في تعزيز الدفاع عن حقوق الإنسان انطلاقا من المبدأ الذي أشار إليه صاحب الجلالة الملك محمد السادس نصره الله في خطابه السامي بمناسبة الذكرى 51 للإعلان العالمي لحقوق الإنسان، بأن المغرب يؤمن إيمانا راسخا "ان احترام حقوق الإنسان والالتزام بالمواثيق الدولية المكرسة لهذه الحقوق ليس ترفا أو موضة بل ضرورة تفرضها مستلزمات البناء والتنمية".
فإذا كان النظام السياسي المغربي يجعل من الملك ضامنا لهذه الحريات ومدافعا عنها، فإن الملك هنا ليس فقط سلطة تنفيذية ولكنه كذلك أمير المؤمنين والممثل الأسمى للأمة والضامن لاستقلال البلاد طبقا لما نصت عليه مواد الدستور الجديد (الفصل 41 و 42).
فلم يعد السجن ذلك المكان الموحش المليء بالأسرار، لأن الحديث السري عن وضعية السجين الذي ظل لمدة طويلة مدفونا في الأذهان بدأ يرتفع صوته ويصبح عاليا، حيث أصبح الاهتمام ضروريا نتيجة للتوجهات الجديدة للنظام العقابي والتغيير الجذري لموقف المجتمع من جهة وللمساندة الواعية أو غير الواعية للعديد من المثقفين من جهة أخرى، لكن مع ذلك فإن الحماية الدولية لحق السجن في معاملة عقابية إنسانية، نتج عنه اهتمام وطني بضرورة تحسين وضعية المحكوم عليه.
تعتبر حقوق المحكوم عليه جزء لا يتجزأ من منظومة حقوق الإنسان مما يجعلنا نضع نصب أعيننا قضية الاهتمام بفكرة حقوق الإنسان باهتمام متزايد يسعى بالدرجة الأولى إلى جعل مبادئ حقوق الإنسان معيارا يحدد ويؤطر علاقة الدولة بالمجتمع.
وفي هذا الصدد يقول ميشيل سيمون: "إن النضال من أجل حقوق الإنسان سيظل هشا وواهنا فعلا ما لم يتأصل ويتجذر عند من يخوضونه في النظرة إلى الإنسان والعالم والمصير والكون الذي يضفي المعنى على حياتهم ونضالهم... فحقوق الإنسان سيزيد احترامها والدفاع عنها وتأمينها بقدر ما تجد الأمم والأعراق والجماعات في ثقافاتها أو تقاليدها الدينية أسبابا خاصة للدفاع عنها والنهوض بها".
فحقوق الإنسان إذن، بؤرة يستحيل التحكم فيها وضبطها، إضافة إلى أن التراكم الكمي في مادة حقوق الإنسان والحريات يصبح محل تساؤل انطلاقا من تعامل الدول مع منظومة حقوق الإنسان.
لذا فالاعتراف بحقوق السجين أمر فوق كل جدال وتكريس الوضع القانوني له رهان يفرض نفسه طالما تغيرت النظرة إلى مضمون التنفيذ وهدفه وأبعاده الذي أصبح يهدف إلى التأهيل كمبدأ دستوري يفرضه الاعتراف الدولي بحق السجين في معاملة عقابية إنسانية، حيث أصبحت فكرة حقوق الإنسان الإطار الذي يحدد جل الأنشطة التي يقوم بها الفرد والدولة.
الدكتور السالك التروزي
باحث متخصص في العلوم الجنائية
|