بعد سنة من وفاة مؤسس جماعة العدل والإحسان، الشيخ عبد السلام ياسين، تعود التساؤلات مجددا حول مسار هذا التنظيم ومسيرته، وطبيعة العلاقة التي تبقت بينه وبين فكر المرشد، وآفاق العمل بالنسبة للجماعة في علاقتها بالإرث الفكري والتربوي الذي شيده. وفي الذكرى الأولى لوفاة مرشد الجماعة تتبادر إلى الذهن مجموعة من الأسئلة، لكن أهمها واحد: هل من الضروري إعادة تحديد هوية الجماعة اليوم؟.
كانت الجماعة توصف باستمرار لدى عموم الدارسين والمراقبين بأنها جماعة راديكالية، والراديكالية هنا تعني التشدد حيال النظام السياسي من جهة، وحيال آلية التغيير من جهة ثانية.
فطيلة تاريخ الجماعة لم يعرف منها سوى خطاب الرفض، بينما تم حجب الخطابات الأخرى المقيمة في البنية الفكرية للشيخ المرشد. ولذلك فإن توصيف الجماعة بالراديكالية كان ناجما ـ بدرجة أساسية ـ عن إسقاط الخطاب السياسي الصريح للجماعة على الخطاب الدعوي للمرشد. لنوضح.
لقد كانت الغالبية العظمى من القراءات والدراسات حول الجماعة تنصب على خطابها العلني المتمثل في البيانات والمواقف السياسية المباشرة، وكانت هذه المواقف الأساس الذي بنيت عليه الخلاصات النظرية حول هوية الجماعة، كجماعة راديكالية، بينما كان يتم التطرق إلى كتابات الشيخ ياسين باعتبارها سندا لتلك المواقف وتزكية لتلك الخلاصات، لا باعتبارها بنية كلية قائمة الذات.
لكن اختبار العلاقة بين فكر المرشد وحركية الجماعة لم يتبين إلا خلال مرحلة الربيع العربي، الذي ظهرت فيه محدودية مفهوم"القومة" الذي شكل محور عملية التغيير في فكر الجماعة.
لقد كان من الشائع أن القومة تعني الثورة، ورغم أن الشيخ ياسين حدد سقف هذا المفهوم ومفارقته لمفهوم الثورة إلا أن الصورة التي ظلت عالقة في أذهان الكثيرين عن ذلك المفهوم هي صورة تتراوح ما بين الثورة والعصيان المدني، أو الهبة الشعبية باختصار.
وعندما جاءت موجة الربيع كان اعتقاد الكثيرين أن الجماعة ستجد فيه فرصة تاريخية لتنزيل ذلك المفهوم، لكن الذي حصل هو أن الجماعة قدمت نموذجا مغايرا تماما لما توقعه البعض، بل إن التحاقها بحركة 20 فبراير في فترة لاحقة على انطلاق الحركة كان مجرد"التحاق" أكثر من كونه مبادرة إلى صناعة فعل مستقل في عملية التغيير. ما حصل في تلك الفترة يمكن أن يكون مرتكزا لإعادة تعريف الجماعة كجماعة إصلاحية على مستوى آلية التغيير، لا كجماعة راديكالية على مستوى هذه الآلية كما كان الاعتقاد الشائع. هذا على المستوى السياسي.
أما على المستوى الفكري فإن هذا الاعتقاد المشار إليه كان ناتجا عن عدم التحديد الدقيق لمفهوم القومة في كتابات الشيخ ياسين. فلقد قدم المرشد القومة بوصفها قنطرة ما بين"مرحلة الجبر" و"مرحلة الخلافة"، لكنه لم يشغل نفسه بتحديد آلية الانتقال، ولذا لعب غموض مفهوم القومة الدور الذي يجب أن يلعبه في إغلاق هذه الفجوة المنهجية. أحد أسباب هذا الغموض الذي اكتنف مفهوم القومة ـ الذي قد يكون غموضا متعمدا ـ هو أن الشيخ ياسين كان ينطلق في فهمه لعملية التغيير من منطلق تربوي صوفي يتهمم بالإنسان لا بالحكم.
وهنا من المهم مقارنة الجماعة بجماعة الدعوة والتبليغ، من ناحية التركيز الاستراتيجي على التربية والدعوة باعتبارهما الطريق إلى بناء الدولة الصالحة، مع صرف النظر عن نقاط الخلاف بين الإثنتين.
فالرجل لم يكن يسعى إلى التضحية بالتربية مقابل السياسة، ويبدو أنه كان يعمل من أجل بناء جماعة وطنية تنادي بالإصلاح بعيدا عن الفتنة السياسية لنيل السلطة.
هذا البعد الوطني ـ القطري قد يكون مثار مفارقة، لدى شيخ كرس نفسه للدعوة إلى الخلافة ونسج خطابا تربويا ودعويا يتوجه إلى عامة المسلمين من خلال أفراد الجماعة. ففي الوقت الذي كان الشيخ ياسين ينادي بإحياء "الخلافة على منهاج النبوة" كانت آليات العمل لدى الجماعة التي أسسها ترتكز على الصعيد الداخلي القطري.
برهان ذلك هو أنه بالرغم من أن الجماعة كانت تتبنى قضايا المسلمين في العالم إلا أنها ظلت الجماعة الإسلامية الوحيدة التي لم ترسل مقاتلين إلى أفغانستان في سنوات الثمانينيات من القرن الماضي، أو إلى البوسنة والهرسك في تسعينياته، بل وأغلقت أذنيها عندما تسابق الإسلاميون إلى دعوة"المجاهدين" إلى الالتحاق بساحات القتال في سوريا.
فالجماعة، بالرغم من تبنيها لقضايا الأمة على مستوى الخطاب، وبالرغم من تركيزها على خصلة الجهاد، تظل على صعيد الممارسة أكثر تحصنا داخل التنظيم الذي بنته، منكمشة على الصعيد القطري على مستوى آليات العمل، بفضل حنكة المؤسس الذي كان يسعى إلى بناء جماعة تمد جذورها في التاريخ المغربي، بالرغم من انفتاحها على المشرق.
وبعد سنة على رحيل الشيخ ياسين، تلح الضرورة على الجماعة لإعادة قراءة فكره الغزير، وربما كانت جماعة العدل والإحسان الوحيدة من جميع الجماعات في العالم الإسلامي كله التي تدرجت في بنائها الفكري تبعا لتدرج مؤسسها في سلم التطور المعرفي، حتى انتهت ناضجة فكريا بالنضج الفكري لمرشدها، ومن الصعب اليوم الحديث عن فكر تملكه الجماعة بعيدا عما دبجه الشيخ بقلمه، لكن السؤال هو: كيف يمكن أن توفق الجماعة غدا بين فكر متعدد وبين الرغبة في ممارسة العمل السياسي، الذي من طبيعته التوحيد والتمركز؟.