محمد بن امحمد العلوي.
لا مكان للحلول الترقيعية في عملية التنمية المغربية..
بعد أربعة عقود على تحرير الصحراء المغربية، يبدو من الهام الحديث عن الجهود الكبيرة التي بذلها المغرب لإنعاش إقليم ظل مهملا طيلة الاحتلال الإسباني.
وبدأت الخطة المغربية لتنمية الأقاليم الجنوبية وخاصة الصحراء عام 1975، حيث جندت الدولة كل امكانياتها المادية والبشرية لتنمية هذه الأقاليم، بعد أشواط ماراتونية دبلوماسية وسياسية وقانونية باشرها المغرب لدحر اسبانيا واستعادة السيادة المغربية على الصحراء (وما زالت المعركة مستمرة ضد خصوم هذه السيادة).
وخلف الاحتلال في الصحراء بيئة اقتصادية وسياسية واجتماعية متواضعة وبنية تحتية هشة وسكان يعتاشون بوسائل تقليدية في وسط بدوي صحراوي قاسي.
واستدعى ذلك جهودا جبارة من بلد كان يعيش حينها ظروفا اقتصادية قاسية لاعادة إدماج مواطني الصحراء في الحياة الحضرية وتسهيل ولوجهم إلى الخدمات الاجتماعية كباقي أقاليم المملكة.
ورصد المغرب من ميزانية الدولة مليارات الدولارات للرفع من مستوى عيش سكان الصحراء والعمل على خلق تحول عمراني مهم بالأقاليم الجنوبية عموما.
وهذا يفند ما يروجه الخصوم حول استغلال الدولة المغربية لثروات تلك الأقاليم، فضلا عن محاولاتهم الحثيثة لعرقلة مسار المملكة لاستكمال تنمية الأقاليم الصحراوية، تناغما مع الاستراتيجية بعيدة المدى التي تتبناها الدولة في جعل المغرب قطبا اقتصاديا وثقافيا يربط بين أوروبا وإفريقيا لخدمة ابناء المغرب العربي عموما.
وتتمتع أقاليم الجنوب المغربي الآن بمرتبة متقدمة من حيث البنية التحتية، وتقوم الحكومة بجهود كبيرة في محاربة البطالة وإدماج السكان في التنمية وتنويع مجالات الدخل.
وفي هذا الصدد، قدمت الدولة عدة تحفيزات كإعفاءات ضريبية للشركات التي تعمل في مجال الصيد البحري لاستيعاب اليد العاملة.
لكن التحدي القائم هو الانتقال من الاعتماد الكلي على وظائف في الإدارة العمومية إلى مجالات أخرى للعمل تكون أكثر مردودية للمواطن في هذه الأقاليم وترفع الإرهاق المالي علن كاهل الدولة.
ولا جدال في أن الدولة المغربية مارست دورها السيادي على أقاليمها الجنوبية عبر خلق عدة ورشات سوسيو- اقتصادية تماشيا مع التحولات الكبرى التي تعرفها المملكة على عدة محاور و من أهمها محاربة الهشاشة وإعطاء الأهمية للحكامة.
وفي السياق نفسه عمل المغرب على خلق مجهودات جدية كانت تحت رقابة دول ومنظمات حكومية وغير حكومية، أبرزها المؤسسة الملكية البريطانية "شاتهام هاوس" التي أشادت بمبادرة المغرب في تسوية قضية الصحراء المعتمدة على المقاربة الاجتماعية و الاقتصادية.
وأكدت المؤسسة أن الملك محمد السادس "أعطى نفسا جديدا لمخطط تنموي قوي بالصحراء بهدف خلق مناصب شغل، وضمان توزيع عادل للموارد، وتطوير جيد للبنيات التحتية، وكل ذلك بهدف تحسين وضعية حقوق الإنسان من خلال تنمية سوسيو اقتصادية".
ولم تدخر المملكة المغربية جهدا في خلق نموذج تنموي على كافة التراب الوطني وخاصة الأقاليم الجنوبية، حيث أسست وكالة للإنعاش والتنمية الاقتصادية والاجتماعية لأقاليم الجنوب بهدف تنشيط الاقتصاد المحلي عبر تحفيز وتمويل وتسويق المشاريع المدرة للدخل.
المطلوب من القائمين على هذه المؤسسة الهامة هو العمل على الرفع من الأنشطة المدرة للدخل و تنويعها باعتبار تدخلات الوكالة في مجالات متعددة و ممارسة سلطتها بالاستثمار في مشاريع الطرقات و التجهيزات الاجتماعية والتربوية والرياضية من أجل تحسين ظروف عيش السكان.
وتبنى المغرب مؤخرا خريطة طريق من اجل الرقي والتطلع إلى مستقبل تعم فيه روح المسؤولية والحكامة والحرية المبدعة بتجلياتها في المجالات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وعمل بمرجبها على تأسس المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي كمؤسسة دستورية مستقلة تقوم بمهمات استشارية لدى الحكومة والبرلمان.
ويعمل المجلس على تقديم رؤيته للنموذج التنموي بالأقاليم الجنوبية واقتراح الإصلاحات المزمع مباشرتها بالمنطقة.
وقدم رئيس المجلس نزار بركة مقاربته لتحفيز النمو الداخلي للأقاليم الجنوبية مرتكزا على نموذج مبتكر في خلق الثروة والشغل بتواز مع ابراز حس التضامن الاجتماعي، مشيرا إلى أهمية "استثمار الموارد الطبيعية والمؤهلات الاقتصادية التي تزخر بها كل جهة على حدة، بإبراز أقطاب تنافسية جهوية".
وكان الملك محمد السادس أكد في خطاب له مؤخرا في ذكرى المسيرة الخضراء حرص بلاده على "استكمال بلورة وتفعيل النموذج التنموي الجهوي لأقاليمنا الجنوبية، الذي رفعه إلى نظرنا السامي المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي".
وأضاف أن المشروع التنموي ليس "مجرد اقتراح حلول ترقيعية لظرفية طارئة، أو مشاريع معزولة لا رابط بينها، وإنما بمنظور تنموي متكامل، يرتكز على تحليل موضوعي لواقع الحال بأقاليمنا الجنوبية، ويهدف للتأسيس لسياسة مندمجة، على المدى البعيد، في مختلف المجالات".
ومن اجل مستقبل أفضل للأقاليم الجنوبية، تحتاج المملكة إلى تعزيز تدخل الدولة على أعلى المستويات لتسهيل الاستثمار وزيادته عبر تشجيع مبادرات خاصة من قبل المجتمع المدني المحلي واستقطاب تجارب ناجحة اقتصاديا وتجاريا وثقافيا.
ويتطلب النموذج التنموي في الاقاليم الجنوبية خلق مناخ تنافسي في إطار وحدة ثقافية واجتماعية باعتماد حكامة جيدة وإعطاء الفرصة للكفاءات المحلية، والثقة بقدرات الشباب والمرأة انتصارا لتوجه دولة المؤسسات، وقطع الطريق على الذين يستغلون الهشاشة والفقر لضرب محاولات الإصلاح في هذه الأقاليم.
وهذا ما أكده العاهل المغربي في خطابه الأخير بقوله "إننا نريده نموذجا متعدد الأبعاد، عماده الالتزام بقيم العمل والاجتهاد والاستحقاق وتكافؤ الفرص، نموذجا متوجها نحو المستقبل تحتل فيه المرأة والشباب مكانة خاصة".