يحلل المفكر المصري إبراهيم فتحي أزمة الفكر العربي الراهنة انطلاقا من سؤال الهوية، كاشفا من جهة عن دور التدني الاجتماعي والتمزق القومي وارتفاع نسبة الأمية والفقر، ومن جهة أخرى استمرارية ثنائية الأصالة والمعاصرة، وتحجيم العقل النقدي والتعتيم عليه، الأمر الذي أدّى إلى استنساخ رؤية ماضوية وفرضها على الحاضر فرضا بليدا، وغيّب ما أنجز من فكر وإبداع واعتباره نخبويا، وكل ذلك دون أن ينفي مسؤولية المفكرين في ذلك، وفي الحوار مزيد من التفاصيل التي تضيء الأزمة وأسبابها.
جراح الحاضر
يقول إبراهيم فتحي ’’بعد مرور عشرات السنين، لا تزال الأسئلة التي طرحها في بلادنا مفكرو عصر النهضة منذ أواخر القرن التاسع عشر هي الأسئلة التي تشغل عقولنا اليوم. فما زلنا نتساءل عن هويتنا.
وفي صدارة التيارات الفكرية المصرية تيار القومية العربية والتيار الوطني المصري، والتيار الذي يقوم بتسييس الدين سواء كان صريح التطرف أو كان يعلن الاعتدال، والتيار اليساري الأممي "وإن عانى من بعض الانعزال وكثير من الانقسام".
لذلك تذهب قلة من المفكرين "محمد نعمان جلال على سبيل المثال" إلى أن من سمات الفكر المصري المعاصر على العكس من تأكيد الجمود تأكيد الثراء والحيوية توازيا مع تغير أمور متعددة في حياتنا الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية. ويذهب هؤلاء المتفائلون إلى تأكيد تحقق تنوير وتحديث في حياتنا عامة، كما تحققت منجزات مبدعة في مجال الأدب والفنون.
ولكن كثرة المفكرين يتحفظون على ذلك ويصفون ما حدث من تطوير وتنوير بأنه كان ولا يزال -على حد تعبير محمود أمين العالم- "نخبويا علويا برانيا"، وكان ولا يزال متناثرا في جزر محاصرة متفرقة، ولم يمسّ جذور أو أسس البنى الشعبية العميقة لمجتمعاتنا العربية‘‘.
وحدّد إبراهيم فتحي أسباب هذا الجمود ورتبها وفقا لتأثيرها ’’لا يزال التخلف الاجتماعي قائما، ولا يزال التمزق القومي قائما، بل يتفاقمان.
ولا تزال الأمية الأبجدية شائعة بين نسبة عالية من السكان، بالإضافة إلى التدني الثقافي السائد، إلى جانب أن الاقتصاد في معظم البلاد العربية لا يزال اقتصادا تابعا هشا يغلب عليه الطابع الريعي والاستهلاكي والبذخي في محيط من الفاقة والتخلف.
لهذا كان من غير المستغرب أن تظل أسئلة عصر النهضة المجهضة أسئلة مثارة اليوم. وتعلو أصوات صاخبة تدعو إلى علاج جراح الحاضر بوصفات جاهزة من الماضي البعيد.
حقا، ليس من الصواب تجاهل تراثنا القديم، ولكن ينبغي على العكس من هذه الأصوات أن نفهم فهما عقلانيا نقديا أفضل ما قدم التراث وأضاف، وأن نسعى في عصرنا إلى مزيد من الإضافة والإبداع.
فهذا هو معنى احترام التراث، والتحقيق الخلاق للهوية والسبيل إلى التخلص من ثنائية خانقة هي ثنائية الأصالة والمعاصرة "التحديث"؛ أي سبيل الاستيعاب العقلاني النقدي مع الإضافة الإبداعية إلى التراث والعصر بدلا من أخطار جمود الهوية واستغراقها كما يقول محمود العالم في استنساخ رؤية ماضوية وفرضها على الحاضر فرضا بليدا.
ولا يجمع المفكر اليساري سمير أمين الإسلام السياسي المعاصر وإسلام المجتمعات في عصور تاريخها السابقة، بل يؤكد الاختلاف الجوهري بين الظاهرتين وهو يصف السياسة الاقتصادية الحالية للإخوان المسلمين بأنها تتبنى رأسمالية تابعة على الرغم من إنكارهم ذلك والادعاء بأن تسييس الدين دواء جاهز يعالج جميع الأمراض أو الشرور أو المصاعب‘‘.
إطلاقية وتلفيق
إن الدراسات الفلسفية العميقة لزكي نجيب محمود وعبد الرحمن بدوي وزكريا إبراهيم وفؤاد زكريا وإمام عبد الفتاح إمام ومحمود العالم وصلاح قنصوه تتميز بالحيوية والمرونة وبعيدة عن الهشاشة
وحول ما إذا كانت الأنظمة العربية لعبت دورا في جمود الفكر العربي باغتيالها للعقل ووقوفها ضدّ أي محاولات لاستمرار تجديده وتشويهه وتحجيم مساحة وجوده وحصاره بالعقل النقلي للإيديولوجيات وأفكار جماعات وتنظيمات الإسلام السياسي والتحالف معها ليسطرا معا على الوعي العربي؛ أكد أن "السؤال يتضمن إجابة أوافق عليها ولكن للمشاكل الخاصة التي سنذكرها كذلك دورا مهما يفوق دور الأنظمة". وأضاف إبراهيم فتحي "يفتقد الفكر العربي عموما إلى الاعتماد على التجارب العلمية ويتصف كثير من المفكرين بالتشتت والتخليط والتسطيح والتلفيقية على حدّ تعبير محمود العالم. وتبرز عند هؤلاء.
بالإضافة إلى تلك الصفات ما تتشدقت به أصوات عالية من ثوابت نصية أصولية بدون إدراك للتغيرات التاريخية، ويصاحب هذه الأصوات لجوء إلى تعميمات إطلاقية وتوفيق بين ثنائيات تقترب من التلفيق".ورأى أن الفكر ليس في كلامنا مقصورا على مجال معرفي معين أو أدبي أو فني بذاته.
يقول فتحي "إن الدراسات الفلسفية العميقة لزكي نجيب محمود وعبد الرحمن بدوي وزكريا إبراهيم وفؤاد زكريا وإمام عبد الفتاح إمام ومحمود العالم وصلاح قنصوه تتميز بالحيوية والمرونة وبعيدة عن الهشاشة. كما أن الروائع الشعرية والروائية والدرامية والسينمائية والتشكيلية عند فنانين بارزين بعيدة عن الجمود والتخلف والهشاشة.
ولكننا نصف بالهشاشة والجمود هنا ذلك الفكر الذي تتمثله أغلبية الناس ويصبح معتقدات مسلما بها منتشرة رائجة وأساسا للفهم المشترك، متجلية في مختلف أشكال التعبير والسلوك الديني والسياسي والاقتصادي والإداري والعملي".
وأوضح أن نقد ما أصاب الفكر من جمود وتخلف وهشاشة قد يقع في فخ نسبة ذلك كله إلى جمود في طبيعة العقل العربي وإلى مكونات بنيته وثوابتها.ولكن لا سبيل إلى فصل مشكلات الفكر العربي وأزماته ونواقصه عن مشكلات وأزمات الواقع العربي موضوعيا وتاريخيا.
أزمة بنيوية
ليس من الصواب تجاهل تراثنا القديم، ولكن ينبغي أن نفهم فهما عقلانيا نقديا أفضل ما قدم التراث وأضاف، وأن نسعى إلى مزيد من الإضافة والإبداع، فهذا هو معنى احترام التراث، والتحقيق الخلاق للهوية
ولفت إبراهيم فتحي إلى المشهد العربي الراهن داخل الوضع العالمي بأنه يتحدد بانفراد النظام الرأسمالي العالمي الذي تقوده الولايات المتحدة الأميركية بالهيمنة على العالم بعد انهيار ما كان يسمى بالأنظمة الاشتراكية وهيمنة فكرية ثقافية لهذا النظام على البلاد العربية.
وقال "سادت عربيا كتابات تدعي أن الرأسمالية هي النظام الطبيعي الملائم للطبيعة البشرية، وأنها لا بديل لها. -وتتجاهل هذه الكتابات الأزمة المتفاقمة للنظام الرأسمالي بدءا من 1968. وهي أزمة بنيوية تزعزع صميم النظام قد أدّت إلى انخفاض معدلات الاستثمار والنمو إلى نصف ما كانت عليه. وارتفعت البطالة ومعها اللامساواة على جميع الأصعدة القومية والدولية.
وهذه الأزمة أدّت إلى نتائج شديدة القسوة على الطبقات العاملة في الغرب وعلى شعوب الجنوب كلها، فأصبحت الفوارق شاسعة في توزيع الدخل بين طبقات المجتمعات.
وقد تكيف الفكر العربي مع هذا الوضع، وساده كما يلاحظ مفكرو اليسار، الاتجاه البراغماتي وهو "نفعي إجرائي" مسطح يتصف بالفردية والتقنية والتنافس الحادّ والولع بالاستهلاك وتهميش الهوية القومية.
وبطبيعة الحال يواجهه في غضب تيار أصولي سلفي يدّعي الأصالة ويرفض الأسس الفكرية للحضارة التي يسميها "الصليبية". والاتجاهان تنقصهما الرؤية العامة الصحيحة لاحتياجات الشعوب العربية؛ حيث يلغي الاتجاه التابع للغرب الخصوصية القومية الثقافية، كما يقع الاتجاه السلفي في التقوقع والانعزال.
والمخرج من هذا المأزق يتطلب نضالا قوميا شعبيا على جميع الأصعدة وليس على الصعيد الفكري وحده.
العرب محمد الحمامصي