مقال لابد منه كمقدمة:
بقلم: سامي العارضة باحث أردني مقيم في بكين
يرى البعض أن الثورات العربية الحالية واللاحقة قد تكون الخطوة الأولى نحو قيام الحلم الذي راود جميع العرب من المحيط إلى الخليج. ولكن الأمر ليس سهلاً كما يتصوّره البعض، فالأحداث الجارية في الوطن العربي حالياً قد تكون أمراً موضوعاً على الأجندة الدولية، حيث بدأ البعض بربط الأحداث التي تجري الآن في الوطن العربي بخطة “تيودور هرتزل” بالسيطرة على العالم وتحقيق حلم اليهود بإقامة دولة لهم في منطقة الشرق الأوسط تمتد من النيل إلى الفرات، في خطة زمنية وضع لها 150 عاماً بعد إعادة هيكلة دول الشرق الأوسط مرة أخرى ضمن مشروع عالمي يسمى “الشرق الأوسط الجديد”.
إن مشروع الشرق الأوسط الجديد ـ والذي تسعى الولايات المتحدة إلى تحقيقه بمساعدة الدول الغربية وإسرائيل من خلال إعادة تشكيل منطقة الشرق الأوسط مرة أخرى ـ يشكّل مشروعاّ مضاداً لمشروع وحدة الدول العربية. حيث ستعمل الدول الغربية ـ بلا أدنى شك ـ على عرقلة هذا المشروع بكل الوسائل المتاحة. لأنه لا يعقل أن تقوم الدول العربية بإنشاء دولة عربية موحّدة في الوقت الذي تسير فيه الدول الغربية قدماً في مشروعها، فالزيت لا يمكن أن يمتزج في الماء هنا، وإذا ما أريد لمشروع الشرق الأوسط الجديد أن يصبح أمراً واقعاً، فإنه سيكون بكل تأكيد على حساب مشروع الوطن العربي الكبير.
إن ما يجعل مشروع الشرق الأوسط الجديد وشيكاً، هو الوثائق التي تمّ كشفها في موقع “ويكيليكس” حول الحرب الأمريكية في العراق وأفغانستان، وكذلك الوثائق التي كانت تخرج بين الحين والآخر حول الدول العربية التي تشهد ثورات حالياً. فعلى سبيل المثال لا الحصر؛ ظهرت وثائق حول عائلة الرئيس التونسي السابق بن علي والفساد الذي انتشر في البلاد في الوقت الذي كان فيه جل الشعب التونسي يخرج بمظاهرات صاخبة ضد النظام. وفي الثورة المصرية ظهرت وثائق أخرى تتحدّث عن أن الولايات المتحدة قامت بإعداد “قيادي شاب” للقيام بثورة تطيح بنظام حسني مبارك، حيث حدّدت الوثائق موعد بدء الثورة والذي سيكون في عام 2011 تحديداً. ذلك عدا عن الوثائق التي أثبتت دعم الولايات المتحدة للرئيس المصري السابق حسني مبارك في العلن، بينما كانت تقدّم دعمها للمعارضة المصرية في الخفاء.
لذا؛ فإن جميع الأحداث والدلائل الآن توحي إلى أمران لا ثالث لهما وهما:
الأول: لتحقيق مشروع الشرق الأوسط الجديد ـ والذي ظهر للجميع مع نهاية عقد التسعينيات من القرن الماضي ـ فإنه يتطلب القيام بالعديد من الخطوات المهمة، ولعل تغيير الأنظمة القائمة الآن في دول الشرق الأوسط إحدى أهم هذه الخطوات، فالولايات المتحدة تريد حكومات شرق أوسطية ليبرالية ـ معتدلة تخرج من قلب شعوبها، وبالتالي فإنها ستضمن ولاء هذه القيادات الجديدة بعد دعمها في ثوراتها، ولعل هذا هو السبب الحقيقي في تناقض تصريحات القادة الأمريكيين أثناء الثورة المصرية والتي هدفت إلى تشتيت الرأي العام. وقد لا ينطبق هذا الأمر على المجموعة الكبيرة من الشباب الذين خرجوا إلى الشوارع بشكل عفوي وبنية صادقة، فلا يختلف اثنين على هذا الأمر، ولكنه قد ينطبق على غالبية قادة المعارضة كـ”المصرية مثلا” والتي بقيت على اتصال وثيق مع الولايات المتحدة طيلة الـ3 ـ 4 سنوات الماضية وذلك للتحضير لثورة 2011. حتى أن الكثير بدأ بالتحدّث عن مطلق الشرارة الأولى للثورة المصرية “وائل غنيم” على أنّها الشخصية التي تحدّثت عنها الوثائق الأمريكية والتي عرضها موقع “ويكيليكس” ـ كما أسلفنا ـ خاصة وأن الوثائق لم تذكر اسم القيادي الشاب خوفاً على حياته كما جاءت في رسالة السفير الأمريكي في القاهرة عام 2008.
مجلة أمريكية تنشر خريطة الشرق الأوسط الجديد ما بعد التقسيم:
برنارد لويس
تقول الدراسة التى نشرت الخريطة، أنه فى الرؤيا الجديدة لشرق أوسط مابعد التقسيم والذي نشر على الموقع :
في هذه الرؤيا إن التقسيمات ليست على أساس خرائط معدة مسبقا بل أعدت على أساس وقائع ديموغرافية (الدين القومية والمذهبية). ولأن إعادة تصحيح الحدود الدولية يتطلب توافقا لإرادات الشعوب التي قد تكون مستحيلة في الوقت الراهن، ولضيق الوقت لابد من سفك الدماء للوصول إلى هذه الغاية التي يجب أن تستغل من قبل الإدارة الأمريكية وحلفائها. يفترض أن إسرائيل لا يمكنها العيش مع جيرانها ولهذا جاء الفصل عن جيرانها العرب، ولذا فإن الطوائف المتباينة التي لايمكن التعايش فيما بينها من الممكن تجمعها بكيان سياسي واحد.
الأكراد على سبيل المثال أكبر قومية موزعة على عدة دول بدون كيان سياسي. عليه فإن الولايات المتحدة وحلفائها لا تريد أن تفوت فرصة تصحيح (الظلم) بعد احتلال بغداد مستفيدة من فراغ القوة التي كان يشكلها العراق الذي أصبح مؤكدا الآن بأنه الدولة الوحيدة في العالم التي كانت الحاجز العظيم أمام تنفيذ المخطط الأمريكي للمنطقة.
الدول المستهدفة بالتقسيم والاستقطاع هي إيران، تركيا، العراق، السعودية وباكستان وسوريا والأمارات، ودول ستوسع لأغراض سياسية بحتة، اليمن، الأردن وأفغانستان.
الدول الجديدة التي ستنشأ….. من تقسيم العراق، تنشأ ثلاث دويلات (كردستان وسنيستان وشيعستان)، (دولة كردستان الكبرى)، وستشمل على كردستان العراق وبضمنها طبعا كركوك النفطية وأجزاء من الموصل وخانقين وديالى، وأجزاء من تركيا وإيران وسوريا، ارمينيا واذربيجان، وستكون أكثر دولة موالية للغرب ولأمريكا.
(دولة شيعستان)، وستشتمل على جنوب العراق والجزء الشرقي من السعودية والأجزاء الجنوبية الغربية من إيران (الأهواز) وستكون بشكل حزام يحيط بالخليج العربي. (دولة سنيستان) ستنشأ على ما تبقى من أرض العراق وربما تدمج مع سوريا. وخلق (دولة بلوشستان الجديدة)، التي ستقطع أراضيها من الجزء الجنوبي الغربي لباكستان والجزء الجنوبي الشرقي من إيران.
إيران ستفقد أجزاء منها لصالح الدولة الكردية وأجزاء منها لصالح دولة شيعية عربية وأجزاء لصالح أذربيجان الموحدة، وستحصل على أجزاء من أفغانستان المتاخمة لها لتكون دولة فارسية.
أفغانستان ستفقد جزء من أراضيها الغربية إلى بلاد فارس وستحصل على أجزاء من باكستان وستعاد إليها منطقة القبائل.
السعودية ستعاني أكبر قدر من التقسيم كالباكستان وستقسم السعودية إلى دولتين، دولة دينية (الدولة الإسلامية المقدسة) على غرار الفاتيكان، تشمل على كل المواقع الدينية المهمة لمسلمي العالم، ودولة سياسية (السعودية) وسيقتطع منها أجزاء لتمنح إلى دول أخرى (اليمن والأردن).
ستنشأ دولة جديدة على الأردن القديم بعد أن تقطع أراضي لها من السعودية وربما من فلسطين المحتلة لتشمل على كل فلسطيني الداخل وفلسطيني الشتات (الأردن الكبير).
اليمن سيتم توسعه من اقتطاع أجزاء من جنوب السعودية وتبقى الكويت وعمان بدون تغيير.
لماذا يتم عرض هذه الخارطة الآن؟… ماهو الغرض بعرضها بموقع عسكري أمريكي رسمي؟
الإدارة الأمريكية كانت قد طرحت مبادءها وتصورها عن شرق أوسط (ديمقراطي) جديد، يبدأ من إلغاء الخرائط الاستعمارية القديمة التي أنشأها الاستعمار الفرنسي والبريطاني في بداية القرن العشرين لانتفاء الحاجة إليها بسبب المتغيرات القومية والطائفية الجديدة للبلدان المعنية بالتقسيم.
التقسيم والاقتطاع وسيلة لأضعاف الدول التي تتعرض للتقسيم والاقتطاع، الدول لجديدة التي ستنشأ ستكون موالية تماما للإدارة الأمريكية بحكم العرفان بالجميل للعناصر الانفصالية المستفيدة إلى الدولة التي منحتهم الاستقلال، والدول التي ستتوسع ستكون مدينة أيضا بمولاتها لمشروع التقسيم والضم. والأردن الكبير سيكون الحل الأمثل للمشكلة الفلسطينية واللاجئين الفلسطينيين ونقطة جوهرية بتخليص إسرائيل من مشكلة تواجهها باستمرار وهي التغيير الديموغرافي للسكان لصالح الفلسطينيين في حال تطبيق قرارات مجلس الأمن ذات الصلة.
لكن السؤال هل هو هذا الحل الممكن للتخلص من المشاكل التي تواجه إستراتيجية الولايات المتحدة للسيطرة على العالم وعلى مصادر الطاقة؟… أم أنها ستكون بؤر جديدة للتوتر ونوعا جديدا من الحروب بين الكيانات القديمة والجديدة (المثال الكوري) والاقتتال الداخلي والتوتر غير محسوب العواقب (تيمور الشرقية).
إن محاولة تقسيم العراق بأيدي عملاء عراقيين باتت معروفة وكشفت معظم خيوطها، فهل يمكن أن تجر الدول الأخرى بنفس الطريقة.
ربما يكون طرح الفكرة والخارطة التقسيمية مجددا هو ورقة ضغط على:
1ـ تركيا…. في حالة معارضتها لمشروع الدولة الكردية في كردستان العراق المقترح خلقها في حال فشل المشروع الأمريكي السياسي والعسكري في العراق لتكون كردستان المكان الأمن لقواتها في حالة انسحابها .
2ـ إيران…. كتهديد مباشر على تدخلها السافر في العراق وتجاوزها لخطوط حمراء وضعتها الإدارة الأمريكية لها.
3ـ السعودية لمنعها من دعم (المتمردين) أو لفيدرالية شيعية في الجنوب.
4ـ باكستان…. لضمان عدم ترددها بضرب (طالبان) والعناصر الإسلامية المتشددة وضمان بقائها ضمن المشروع الأمريكي.
5ـ اليمن والأردن، لإغراقهم بحلم التوسع والأكراد بحلم خلق دولة جديدة لهم كمكافئة غنية لمدى دعمهم للمشروع الأمريكي.
هذا هو الحلم الأمريكي، وحلم الانفصاليين والتابعين والسائرين ضد أحلام ومستقبل شعوبهم.
إن التقسيم والاقتطاع لتشكيل دولا جديدة أو توسيع لدول قديمة لا يمكن إن يمر دون، إما بالاتفاق وهو امرأ مستحيلا لدولا مستقلة ومستقرة ذات كيانات سياسية معترف بها دوليا بهذا الشكل أوان تتم بالتقسيم القسري بالشكل الذي ينجز حاليا في العراق. وتمنح الإدارة الأمريكية الآن وبسرعة الأولوية القصوى لإنجاحة ومن ثم تعميمه على المنطقة ككل.
الخطة الأقرب للتنفيذ وتم نشرها فى 2006:
جاي بخور (في يديعوت أحرونوت يوم 27/7/2006) قام بتقديم خطته لإعادة صياغة الشرق الأوسط. والخطة لا تعدو أن تكون شكلا من أشكال الأحلام المتورمة، ولكنها مع هذا تعطينا فكرة عما يدور في خلد الولايات المتحدة وإسرائيل.
فالمقال يزعم أن هذه الحرب تدافع عن “جوهر” الغرب، دون أن يذكر لنا ما هو هذا الجوهر؟ وهل الهدف من هذه الحرب هو إقامة العدل وتحقيق السلام أم فرض الهيمنة ونهب الشعوب؟
يبدأ المقال بالقول إنه يجب عدم العودة للشرق الأوسط القديم الذي يصفه الكاتب بأنه “توجد فيه دولة ذات نظام مجنون تتسلح بسلاح ذري وتسلح رفيقاتها (وهذا بطبيعة الحال لا يعني إسرائيل) والعراق غارق في حرب أهلية، ومنظمات راديكالية تسيطر علي حكومات ونظم حكم، وهذه بدورها تمنح جماعات مخربين مسلحة دعماً قوياً وعلاقة متسامحة.
ثم يستأنف العبقري الحديث قائلا: ثمة حاجة إلى تغيير جوهري، فلم تنجح هذه الدول في منح مواطنيها حياة ثقافية كاملة، ومعظم شعوبها فقيرة، وهي دول تتسم كلها بالطغيان ولا تُنطق كلمة الديمقراطية ولو في دولة واحدة، وإذا ما تمت محاولة ديمقراطية في بعضها، فإن النتيجة تكون تولي نظم إرهابية إسلامية أو فوضى”. (ولنلاحظ التناقض الذي يقع فيه هذا العبقري، فهو يرفض الطغيان العربي، ولكنه يجد أن الديمقراطية تؤدي إلى الإرهاب الإسلامي).
ولعلاج هذا الوضع يقترح جاي بخور “أن يُقسم العراق إلى ثلاث دول، بحسب مقياس طائفي: سُنية في الوسط والغرب، وشيعية في الجنوب، وكردية في الشمال، كما يجب إنهاء نظام سوريا وإعادة الأكثرية السُنية إلى الحكم.
وعلي الأردن أن يتحمل المسؤولية عن الضفة الغربية، وبهذا ينشأ كيان فلسطيني واحد فينتشر الفلسطينيون إلى الشرق (بعيدا عن إسرائيل بطبيعة الحال) لا إلى الغرب في اتجاه الدولة الصهيونية والمطالبة بحق العودة.
أما مصر فستصبح مسؤولة عن قطاع غزة، وهو شيء ـ حسب تصوره – أصبح يحدث في الواقع أكثر فأكثر. ويجب إعاقة إيران بواسطة نظام عقوبات شامل، ويجب أن يقوم في لبنان نظام دولي جنوب الدولة وشرقها، لمنع عودة الأصولية الشيعية أو غيرها.
وماذا عن شعوب المنطقة؟ هل هي مستعدة لتقسيم جديد (سماه المفكر الإستراتيجي العربي منير شفيق سايكس بيكو الثاني: تقسيم ما هو مقسم وتجزئة ما هو مجزء)؟ يري هذا العبقري الجهبذ أن الشعوب سترحب أيما ترحيب بهذا، بينما سيعارضه الحكام وحدهم.
“فسكان العراق يشتاقون إلى الاستقرار، ومن المؤكد أن الأكثرية السُنية في سوريا تطمح إلى إنهاء سلطة القلة العلوية، وفي الأردن 80% في الأصل من السكان فلسطينيون، والملك متزوج بفلسطينية، وأبناؤه نصف فلسطينيين.
وسيفرح سكان الضفة الغربية أيضاً بإنشاء دولة فلسطينية كبيرة. وفيما يتعلق بمصر، من المعقول أنها تدرك اليوم أن غزة الفائرة تعني سيناء الخطرة، وتهديد السياحة والاستقرار السياسي والاجتماعي كله”.
ثم يختم جاي بخور حديثه بالقول إنه إزاء تفشي الراديكالية الخطرة للتدين المتشدد الإسلامي، يجب على العالم الغربي أن يستيقظ وأن يفهم أن الحديث ليس عن الشرق الأوسط أو إسرائيل فقط، بل عن جوهر وجوده.
لماذا الاخوان؟ مقال لابد منه كخاتمة:
وليام تايلور
حذر وليام تايلور، الذي يحمل لقب “المنسق الخاص لتحولات الشرق الأوسط” في وزارة الخارجية الأمريكية، عسكر مصر من القيام بـ”انقلاب عسكري”، في كلمة له في مؤسسة “مجلس الأطلسي”، مؤكداً أن الولايات المتحدة ستقبل بهدوء فوز الإخوان المسلمين (وقد تكررت مثل هذه التصريحات على لسان مسؤولين أمريكيين كبار منهم هيلاري كلينتون).
وكان اتفاقاً سرياً حول دعم الولايات المتحدة لنشاطاتهم قد تم التوصل إليه في شهر تشرين الثاني 2011 في فرانكفورت بين فريق من وكالة المخابرات المركزية الأمريكية CIA بقيادة مدير الوكالة ديفيد بتريوس وممثلين عن قيادة الإخوان المسلمين.
وفي بداية شهر كانون الثاني 2012 التقى وليم بيرنز، نائب وزير الخارجية الأمريكية، مع محمد مرسي بصفة الأخير رئيساً لحزب الحرية والعدالة، الجناح السياسي لحركة الإخوان المسلمين.
أن الدوائر الحاكمة في الولايات المتحدة كانت قد وضعت رهانها على الإخوان. ومن اللافت للنظر كيف ظهرت مجموعة من المقالات التي تتغنى بالإخوان المسلمين في وسائل الإعلام في الولايات المتحدة قبيل الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية المصرية. مثلاً، عبرت صحيفة النيويورك تايمز عن تفاؤل حذر إزاء الحملة الرئاسية لمرشح الإخوان المسلمين.
وفي نيسان كتبت نفس الصحيفة بأن إدارة أوباما قد شرعت بالتراجع عن عقود من عدم الثقة والعداء تجاه الإخوان المسلمين.
وفي نفس الفترة تقريباً ذهب فريق من الإخوان المسلمين إلى واشنطن لزيارة البيت الأبيض وعقد المحادثات مع مجلس الأمن القومي للولايات المتحدة، ومع جون مكاين وليندسي غراهام، عضوي لجنة القوات المسلحة في مجلس الشيوخ الأمريكي.
الإخوان المسلمون عبارة عن بنية تنظيمية تأخذ شكل شبكة، وهي منظمة دولية إسلامية تضمّ في صفوفها حماس في فلسطين وحزب جبهة العمل الإسلامي الأردني وغيرهم، ولديها فروع في سورية والعراق ولبنان والسودان وحتى في دول وسط – آسيوية مثل كازاخستان وأوزبكستان. وتمثل مناصبها القيادية ثلاثين بلداً حول العالم… وهي تعتبر منظمة إرهابية في روسيا والعديد من الدول الأخرى.
وقد حارب الإخوان الاتحاد السوفييتي في أفغانستان في الثمانينات، وحاربوا وروسيا المعاصرة في الشيشان وداغستان… وفي عام 2011 لعب الإخوان المسلمون دوراً فعالاً في إسقاط معمر القذافي.
ولدى الإخوان مكتبٌ رسميٌ في أوروبا، بالتحديد في بريطانيا العظمى، البلد الذي أصبح ملجأ آمناً للعديد من الإرهابيين الدوليين، والإخوان المسلمون لا يصنفون كمنظمة إرهابية هناك!!.
إن الإخوان المسلمين المنظمين على نمط الجمعيات الماسونية السرية تعود صلاتهم بالمخابرات البريطانية والأمريكية للعام 1928… وحسب ستفن دوريل، مؤلف كتاب “أم أي 6: داخل العالم الخفي للاستخبارات السرية لصاحبة الجلالة”، فإن المخابرات البريطانية نجحت في تأسيس اتصالات وثيقة مع الإخوان المسلمين بعيداً في الماضي منذ عشرينات وثلاثينات القرن العشرين.
وبعد الحرب العالمية الثانية حلّت محلها وكالة المخابرات المركزية الأمريكية “سي أي إيه” دون أن يعني ذلك بأي شكل تقليص الاتصالات مع البريطانيين. على العكس تماماً إذ أن صلات الإخوان مع “السي أي إيه” و”الأم أي 6″ تعززت عندما وصل جمال عبد الناصر للسلطة عام 1954… وقدم حلفاء الأنغلو – سكسونيين في الشرق الأوسط ـ السعودية والأردن ـ الدعم المالي والملجأ الآمن للإخوان.
وحسب جان جونسون، وهو مراسل سابق لصحيفة الوول ستريت جورنال، فإن موجة اهتمام جديدة بالإخوان المسلمين قُدحت شرارتها في الدوائر العسكرية والسياسية للولايات المتحدة بعد دخول القوات السوفيتية أفغانستان في 1979.
وبعد عام 1991، تراجع الإخوان المسلمون إلى الخلفية، وبدءأ من عام 2004، بدأ المحافظون الجدد لإدارة بوش الابن، في حماستهم لإعادة تشكيل خريطة “الشرق الأوسط الكبير”، يحتاجون الإخوان مجدداً… وكما نستطيع أن نرى، حافظ تغيير الرئيس الأمريكي القابع في البيت الأبيض (من بوش إلى أوباما) على هدف بناء “الشرق الأوسط الكبير” سالماً… وهذا ليس مفاجئاً إذا أخذنا بعين الاعتبار أن أعضاء فريق السياسة الخارجية لبوش الابن المسؤولين عن سياسة التقارب مع الإخوان المسلمين يمسكون بمناصب في بنية إدارة أوباما.
أن إضعاف الصين هو الأولوية الأولى للسياسة الخارجية للولايات المتحدة في المستقبل القريب، وأي وسائل يمكن تبنيها لتحقيق الهدف… ولسوف تركز الجهود الأساسية على مد تواجد الولايات المتحدة إلى منطقة آسيا – المحيط الهادئ… ولهذا سوف تقوم الولايات المتحدة بالانسحاب تدريجياً من “الشرق الأوسط”.
لكن الدوائر الحاكمة في الولايات المتحدة لا تريد أن تتركه وحده خوفاً من أن تقوم الصين، التي تكثف جهودها لتعزيز نفوذها في المنطقة، من ملء الفراغ بسرعة.
وإذا كان هدف الولايات المتحدة الأمريكية هو ملء فراغ النفوذ السياسي على المستوى الإقليمي، فليست ثمة أداة أفضل من الإخوان المسلمين… فهم حالياً يحاربون النظام في سورية، أي أنهم ينفذون مخططات الولايات المتحدة لخلق “شرق أوسط كبير”.
وكما تقول صحيفة “الورلد تريبيون” الأمريكية، فإن إدارة باراك أوباما قررت أن الإخوان المسلمين هم الذين يجب أن يحكموا في سورية بعد إسقاط الحكومة السورية… ومبكراً في تموز 2011، التقت هيلاري كلينتون بالإخوان المسلمين السوريين ودعتهم للتعاون القريب مع تركيا بهدف التخلص من النظام القائم… هذه المنظمة الإسلاموية تم “تعيينها” لتكون “معارضةً ديموقراطية” للنظام في سورية!!.
وقد أكد هربرت لندن، الرئيس السابق لمعهد هدسون، والرئيس الفخري الحالي لمركز الأبحاث الأنجلو – ساكسوني، بأن باراك أوباما قرر أن يعتمد على تركيا والإخوان المسلمين فيما يتم خلق حكومة سورية ما بعد النظام الحالي، في كتابه المعنون: “الولايات المتحدة تخون المعارضة السورية”.
في الواقع يفيد وجود الإخوان الراديكاليين مصالح واشنطن في جعل منطقة “الشرق الأوسط” أكثر “حيوية… فنظام الحكم العسكري المصري الذي ترأسه حسني مبارك لا يفيد لتحقيق مثل ذلك الغرض… فقد بات “ليناً” وكفّ عن أن يكون قوة إقليمية ضاربة رئيسية.
لقد بات واضحاً بشكل مطلق، على الأقل، بأن جزءاً من النخبة السياسية للولايات المتحدة تسعى لدفع “الشرق الأوسط” للسقوط في حرب واسعة النطاق طويلة الأمد في زمن الأزمة الاقتصادية العالمية… والهدف هو حل مشاكلها الخاصة وتحويل اهتمام الرأي العام في الغرب بعيداً عن مشكلة انخفاض مستوى المعيشة ونوعية الحياة، لأنه بات من المستحيل المحافظة على “مجتمع الاستهلاك” بحالته السابقة بعد الآن.
أن حرباً طويلة الأمد في الشرق الأوسط يمكن أن تعطي دفعة لازدهار الصناعة العسكرية للولايات المتحدة، وعندها يمكن لشركات الأسلحة الأمريكية، التي تمارس تقليدياً تأثيراً كبيراً على واشنطن، أن تبيع الأسلحة للمتحاربين… وبدورها يمكن لحكومة الولايات المتحدة أن تصبح وسيطاً في محادثات السلام التي تقوي مواقفها في المنطقة.
إن مجيء الإخوان المسلمين للسلطة في مصر سيؤدي إلى قلبها ضد روسيا والصين…. والقوقاز الشمالي، وما وراء القوقاز، وآسيا الوسطى، ومقاطعة شينجيانغ (اليوغور) الصينية المستقلة سوف تصبح كلها أهدافاً للإسلاميين الراديكاليين.
إن الفرع السوري للإخوان المسلمين سبق له أن وصف روسيا والصين وإيران بأنهم (شركاء في جرائم قتل المدنيين السوريين)، متهماً إياهم بتقديم الدعم السياسي وإيصال الأسلحة للنظام في سورية… وهذا يكشف بوضوح التوجه السياسي للإخوان ويظهر من يعطيهم الأوامر!!..
ولن يكون من السهل على الإخوان أن يقووا مواقعهم في مصر، فالقوات المسلحة تقف في طريقهم، وكل السلطات في البلاد تتركز في أيديها… وبالتالي فإن مصر الآن مهيأة لصراع مميت حقيقي، ونتيجته لا يمكن التنبؤ بها… فمن جهة، يخرج الإخوان المسلمون للفضاء المفتوح، ولديهم فرصة “للضغط” على العسكر لجعل الثورة المصرية تدخل في “جولة ثانية”.
ويدرك الإخوان أن الأمريكيين يعتمدون عليهم ولسوف يبذلون قصارى جهدهم لإثبات أهليتهم لواشنطن.
………………
هل هناك خطر جدى لتفتيت الدول العربية؟
محمد حسن خليل
تجددت فى الفترة الأخيرة أفكار حول مخططات لتفتيت الدول العربية ينتسب بعضها إلى مفكرين أمريكيين وبعضها إلى تقارير استراتيجية إسرائيلية، خصوصا مع اتهام الإخوان المسلمين بالضلوع فى مخططات مشتركة مع الأمريكيين لتنفيذ تلك المخططات. ولما كانت تلك المخططات يتم تداولها منذ سنوات طويلة، دون اقتناع واسع بجديتها، لذا لزم فحصها ومدى إمكانية تحققها من عدمه. وليس ببعيد عنا ما تحقق فعلا من التفتيت القومى للسودان إلى دولتين عام 2011 وكذلك واقع التفتيت الفعلى للعراق بعد الغزو الأمريكى.
بداية يرينا التاريخ القديم والمعاصر أن التحقيق الأمثل لأهداف دولة منتصرة فى حرب هو الإضعاف الاستراتيجى للدولة الخصم عن طريق نزع أجزاء منها حتى تستقل فى دول جديدة أو تلحق بدول أخرى عادة من الدول المنتصرة. فقد فرض المنتصرون على محمد على مثلا فى معاهدة لندن عام 1840 أن يتخلى عن الحجاز والشام ويبقى فى مصر (والسودان وقتها) وحدها على أن تكون فيها ملكية وراثية لابنائه.
كما انتهت الحرب العالمية الأولى بانتهاء إمبراطورية الهابسبرج مع هزيمتها، حيث تم تقسيمها إلى النمسا والمجر مع ضم بعض أراضيها الأخرى لدول محيطة. وكذلك تم مع الإمبراطورية العثمانية، حيث نزع منها ما أصبح بعدها الوطن العربى وخضع للتقسيم الأنجلو فرنسى وفق اتفاقية سايكس بيكو الشهيرة عام 1916، وظلت تركيا فى حدودها الحالية فقط. وفى نفس الفترة فرض على الاتحاد السوفيتى الناشئ عام 1918 التخلى عن جمهوريات البلطيق الثلاث، لتوانيا ولاتفيا وأستونيا، لكى تستقل عنه بعد معاهدة صلح برست ليتوفسك الشهيرة بينه وبين ألمانيا.
إلا أن ما جعل الكثيرين يستغربون من مخططات التقسيم هو أننا لم نشهد لها أى أمثلة فى الفترة بين أعوام 1945 و1991. ولكن تلك هى الفترة الاستثنائية فى التاريخ حيث استند النظام الدولى إلى النظام ثنائى القطبية بين المعسكرين الشرقى والغربى، وقام على أساس هذا التوازن مؤسسة الأمم المتحدة التى ضمنت حدود الدول القائمة والمعترف بها عند نهاية الحرب العالمية الثانية.
وعندما انهار الاتحاد السوفيتى عام 1991 تفتتت دولة الاتحاد الفيدرالى إلى 15 جمهورية مستقلة لتكون أول مؤشر على عودة عهد التقسيم القومى بعد انتهاء حقبة التوازن الدولى الذى استبعد تقسيم البلدان. وتلا هذا الحروب والصراعات الطويلة التى قادت لتفتت الاتحاد اليوغوسلافى إلى خمس دول مستقلة (أو ست دول إذا اعتبرت كوسوفو دولة مستقلة)، ثم انقسام تشيكوسلوفاكيا سلميا بعد استفتاء إلى جمهوريتى التشيك والسلوفاك. ولهذا ليس غريبا أن اعتبر البعض أن ماسمى بالبلقنة أو التفتيت الإقليمى هو أحد سمات العولمة أو العصر أحادى القطبية. وهذا منطقى بالطبع إذ إن العصر أحادى القطبية قد أتاح إطلاق أشد أشكال العدوانية الاستعمارية على الدول القومية مما سمح بإضعافها إلى درجة تفتيت الدولة الواحدة إلى أكثر من دولة، وتحقيق الاستفادة من غياب الشريك الكابح للعدوانية زمن النظام ثنائى القطبية.
بل إن هناك مثلا صارخا على طموح النزوع الاستعمارى (يستوى فى ذلك فى مرحلته الكولونيالية القديمة القائمة على الاحتلال العسكرى المباشر أو فى مرحلته الإمبريالية القائمة على تصدير السلع والرساميل، والتى لم تستبعد مطلقا الاحتلال الكولونيالى، والذى تصاعد دوره مع مرحلة العولمة) طموحه للتفتيت القومى للعدو. هذا المثل وارد فى كتاب زبجينيو بريجنسكى، مستشار الأمن القومى لكارتر ومنظر الحزب الديمقراطى الشهير، والمعنون: “رقعة الشطرنج الأوراسية، الأولية الأمريكية وتحدياتها فى القرن الواحد والعشرين”. وبعد أن يحدد الكاتب خمس دول تملك الطموح ودرجات مختلفة من الإمكانيات لتحدى النفوذ الأمريكى، هى روسيا والصين وفرنسا والهند وإيران، يرى أن أخطرها هى روسيا، بالرغم من أنها وقت كتابة الكتاب (عام 1997) كانت فى أسوأ حالات انهيارها فى عهد يلتسين وسيطرة المافيا. لكن بريجينسكى شبهها بالثقب الأسود لامتلاكها تاريخيا طموحا امبراطوريا وقاعدة صناعية عسكرية ويمكنها إذا استعادت تماسكها أن تكون الخطر الأول، حتى قبل الصين، على الولايات المتحدة. والمثير الحل الأمثل الذى يطرحه هذا المفكر الديمقراطى الأمريكى، وليس الجمهورى ولا المنتمى للمحافظين الجدد: إنه يرى أن الوضع الأمثل هو التفتيت الإقليمى لروسيا إلى ثلاث دول، دولة أوروبية غرب الأورال، ودولة فى سيبيريا فى الشرق، ودولة تضم الباقى الأسيوى! هذا ما يضمن عدم تحدى روسيا لأمريكا إن استطاعت أمريكا تنفيذه!!!
ولكن ما علاقة ذلك بدولنا العربية؟ ربما كانت أول وثيقة تم تداولها بشكل واسع نسبيا هى الوثيقة التى اشتهرت باسم وثيقة تقسيم العالم العربى والتى نشرتها مجلة “كيفونيم” التى تصدرها المنظمة الصهيونية العالمية، فى عام 1982. ولقد نشرت الوثيقة باللغة العبرية، وتم ترجمتها الى اللغة العربية، وقدمها المفكر القومى الدكتور عصمت سيف الدولة كأحد مستندات دفاعه عن المتهمين فى قضية تنظيم ثورة مصر عام 1988.
محتوى الوثيقة أن العالم العربى هو برج من ورق تحدد تاريخيا من قبل القوى الكولونيالية التى كانت تستعمر العالم العربى، إنجلترا وفرنسا، وفق اتفاقية سايكس بيكو، ولم يتحدد بشكل ديمقراطى. والدليل على هذا فى رأيهم هو وجود قوميات متعددة داخل كل دولة، يعانى أغلبها من قهر أقواها. والدليل على هذا هو وضع الأكراد فى العراق والأمازيغ (شعوب البربر) فى غرب أفريقيا، والأقليات الدينية المسيحية فى سوريا ومصر إلى آخره. كما يبرز أيضا فى الدول العربية الاستقطاب فى توزيع الدخل وسيادة الفقر! ولهذا تقتضى الديمقراطية فى رأيهم، وهو ما يتوافق كما يعترفون مع مصلحة إسرائيل، بتقسيم تلك الكيانات القومية (الدول) الحالية إلى كيانات أصغر، وهو ما يجب عليهم العمل على دفعه لضمان أمن إسرائيل استراتيجيا.
وهكذا طرحوا تصورهم نحو تقسيم مصر إلى دولة نوبية فى أقصى الجنوب، ثم دولة مسيحية فى الصعيد وتمتد عبر الصحراء الغربية لتشمل الإسكندرية، مع عمل إسرائيل على استعادة تبعية سيناء لها، والباقى دولة سنية. وبالمثل مطروح تقسيم العراق إلى دولة كردية فى الشمال ودولة شيعية فى الجنوب ودولة أو دولتين سنيتين فى الباقى. وتقسم المملكة العربية السعودية إلى الحجاز فى الغرب، ونجد فى الوسط، ودولة شيعية فى الشرق، مع ضم المناطق الساحلية الغنية بالبترول إلى أى من الإمارات الصغيرة. وتقسم سوريا إلى دولة علوية على ساحل المتوسط، مع دولة للدروز فى الجنوب مع قسم من الأردن، والباقى إلى دولتين سنيتين متناحرتين فى حلب ودمشق. وهكذا دواليك من دول متعددة فى لبنان إلى دولة للأمازيغ (البربر) جنوب ليبيا والجزائر…الخ.
ومن الأمانة أن نقر وقتها أنه لم يقف أحد من مفكرى اليسار طويلا أمام تلك الوثيقة لأسباب عدة:
• فأولا كان غريبا عنا احتمال التفتيت القومى الذى لم نره فى حياتنا كما سبق أن رأينا.
• وثانيا ارتبط نشر تلك الأفكار بالتيار الفكرى القومى مرتبطا بفكرته التآمرية عن التاريخ حيث إسرائيل مثلا هى حصاد مؤامرات جمعيات سرية وشبه سرية منذ قرن (هرتزل والصهيونية) أو قرون متعددة (بروتوكولات حكماء صهيون ونظرية التاريخ كمؤامرة يهودية ضد كل الشعوب من أجل تحطيمها، تتضمن تلك المؤامرة كل من الديمقراطية والعلمانية والاشتراكية وغيرها من أجل إخضاع العالم لليهود)، ومعروف بالطبع رفض الاشتراكيين لتلك النظرة للتاريخ.
• وثالثا لأنه منهجيا تتلخص رؤيتنا فى التاريخ باعتباره محصلة صراع قوى طبقية متعددة وفق مصالحها سواء على المستوى القومى أو على المستوى العالمى ولا تختزل إطلاقا فى البعد القومى وتناقضاته كما تطرحه إسرائيل. والدليل أن العنصر الحاسم فى قيام إسرائيل لم يكن المخطط الصهيونى، بالرغم من كفاءته، حيث كان الصهاينة قلة داخل المجتمعات الأوروبية بين اليهود، ولكن المصالح الاستعمارية الإنجليزية تحديدا التى تلقفت تلك الدعوة لمنع خطر مستقبلى لوحدة الشرق العربى بتقسيم امتداده الجغرافى بحاجز بشرى مثلته الدولة الصهيونية. وهذا هو ما مكن حلم أقلية ضعيفة بين اليهود (الصهاينة) من وسائل القوة الكولونيالية الإمبريالية الإنجليزية اللازمة لتحقيق حلم إنشاء الدولة اليهودية.
• ورابعا وأخيرا سلم التقدميون واليساريون بالطبع بأن اتجاه الدول القومية فى فترة المد القومى فى مصر والعراق وسوريا والجزائر وغيرها إلى الحل الاستبدادى لمشاكل الأقليات القومية والدينية يخلق شرخا فى تماسك الدول القومية يمكن أن ينفذ منه النفوذ الاستعمارى، دون توقع أن يؤدى ذلك إلى مستوى التفتيت القومى نظرا للقوة الواضحة لتلك الدول وقتها. وتميز اليسار عن القوميين بالدعوة إلى إعطاء الأقليات حقوقها الديمقراطية (وقتها لم يكن أى منها يطالب بالانفصال حتى جنوب السودان) بينما اتجه المفكرون القوميون إلى إنكار مشاكل الأقليات واعتبار تلك الدعوات دعوات انفصالية استعمارية ضد الدول الوطنية!
ولكن الأحلام الصهيونية شيئ وتحقيقها شيئ آخر، فتحقيق أى حلم رهن بميزان القوى فى الواقع، وبالطبع لا تكفى قوة إسرائيل لفرض التفتيت القومى على الدول المجاورة مهما فعلت مالم يكن ذلك فى إطار تغير أوسع لموازين القوى يضم العالم كله، فالتوازن المحلى والعالمى هو حتى ما يمكن أن يطلق عنان الأحلام الإمبريالية أو يقيدها!
تأتى بعد ذلك كتابات المستشرق الأمريكى الإنجليزى الأصل اليهودى الصهيونى برنارد لويس (1916- ). وبرنارد لويس هو أول من استخدم مصطلح صراع الحضارات قبل هنتنجتن، بل كان يرى أن الحروب الصليبية على بشاعتها كانت ردا مفهوما على الهجوم الإسلامى سابقا، وبالتالى لا يجب الاعتذار عنها. كما أنه كتب مقالا عام 1990 بعنوان جذور الغضب الاسلامي قال فيه: هذا ليس أقل من صراع بين الحضارات، ربما تكون غير منطقية لكنها بالتاكيد رد فعل تاريخي على منافس قديم لتراثنا اليهودي والمسيحي وحاضرنا العلماني والتوسع العالمي لكليهما.
إلا أن الأهمية السياسية لبرنارد لويس تأتى من اتصاله بفكر المحافظين الجدد وكونه مستشارا سياسيا للرئيس جورج بوش، بل ومشاركا فى وضع مخططات غزو العراق وتقسيمه بعد الغزو. وقد ألف عشرين كتابا وعددا ضخما من المقالات، ووضع فى كتاباته تصورات عن تقسيم العالم العربى لا تختلف كثيرا عما وضعته إسرائيل.
ويهمنا هنا أن نعود فنؤكد أن الفهم العلمى لقضية القوميات ونشأة الأمم يبتعد كثيرا عن مثل هذا الفهم السطحى، فالقومية هى تفاعل الأرض واللغة والتاريخ والتكوين النفسى والوجدانى، وهى تتطور إلى الأمة عندما تدخل فى مرحلة الرسملة أو البرجزة فتتطور إلى مستوى نوعيا أرقى من الوحدة القومية عن طريق تكوين السوق الرأسمالية الموحدة. وبالطبع لا تجرى الأمور فى الواقع بمثل تلك البساطة التى تتحدث بها المخططات المجردة، إذ إن التفاعل يتضمن التفاعل على المستوى الجغرافى الإقليمى ثم العالمى فى عهود الإمبراطوريات العالمية، وبالتالى يخضع، فى حسبة أوسع، لا إلى موازين القوى المحلية وحدها، ولكن كذلك إلى موازين القوى الإقليمية والعالمية. وفكرة النقاء القومى العرقى شبه مستحيلة ولا توجد إلا ربما فى قلة نادرة من دول العالم دون أن يؤدى ذلك التعدد القومى بالضرورة إلى التفتت القومى إلا قليلا وفى مناخ مناسب كما سبق التوضيح.
والعولمة فى رأينا هى ما طرح على الأجندة ميزان القوى الذى يسمح بتحول الأحلام الإمبريالية الصهيونية إلى إمكانية، وبالقطع ليس إلى حتمية تاريخية لتحقق التفتيت القومى، رغم ما تحقق منها حتى الآن كما سبقت الإشارة. ومن المنطقى نسبيا أن نرى الأمثلة الأولى على تحقق التفتيت القومى لثلاث دول فى شرق أوروبا فى بداية قوة النظام العالمى أحادى القطبية فى أعقاب سقوط الاتحاد السوفيتى فى النصف الأول من التسعينات من القرن الماضى. كما أن من المنطقى أن يرتبط تاريخ تحقق التفتيت القومى من الزاوية الفعلية للعراق بنشأة شبه دولة كردية فعلية (2003)، أن يرتبط بفترة حكم أشد اتجاهات الإمبريالية رجعية وعدوانية فى الولايات المتحدة الأمريكية، أى فى فترة حكم المحافظين الجدد وسيطرة بوش وتشينى ومستشارهما لويس رغم أن لويس يكتب تلك الكتابات منذ سبعينيات القرن الماضى على الأقل.
نأتى إلى علاقة الإخوان المسلمين بالخطط الأمريكية. من المعروف أن الولايات المتحدة، بعد أن فوجئت بالثورة الإيرانية عام 1978 ولم تكن لها علاقة سابقة بالخمينى ولا بالمنظمات الإسلامية، قد قررت أن تبقى على علاقة مع كل التنظيمات الموجودة، ولو فى حدود الاستكشاف، فى المنطقة حتى لا تفاجأ بمثل الذى حدث بإيران. ومنذ عام 2003 وكوندوليزا رايس وزيرة الخارجية الأمريكية تقابل الإخوان المسلمين وأدلت بتصريح شهير عام 2004 قالت فيه أن نظام مبارك ضعيف، وأن الإخوان المسلمين هم أحد البدائل المطروحة.
بل إن كوندوليزا رايس قد صرحت فى الواشنطن بوست فى 9 أغسطس عام 2005 بأنها تتوقع أن المنطقة العربية ستشهد انتفاضات متصاعدة وتغييرات مؤثرة فى سبيل التحول الديمقراطى، وإن هذا التحول سيجرف أنظمة موالية وحليفة، حيث ذكرت الفوضى الخلاقة.
ونجد رالف بيترز وهو ضابط متقاعد يسرب مخططات لإعادة تقسيم الشرق الأوسط. ففي مقال له نشر بمجلة القوات المسلحة الأميركية في عدد يونيو 2006 يطرح بيترز تصورات عن التقسيم مبرراً بأن المنطقة العربية شهدت ظلماً فادحاً للأقليات بل لكتل سكانية عريضة كالأكراد والشيعة العرب ومسيحيي الشرق الأوسط، والبهائيين والإسماعيليين والأمازيغ البربر مما أدى إلى وجود ميراث هائل من الكراهية الشديدة بين الجماعات الدينية والإثنية بالمنطقة تجاه بعضها البعض لذا يجب أن يعاد تقسيم الشرق الأوسط إنطلاقاً من تركيبته السكانية غير المتجانسة القائمة على الأديان والمذاهب والقوميات والأقليات حتى يعم السلام وتنطلق للتنمية!!
إذن فمخططات التقسيم الإقليمى لدول المنطقة تصبح خططا فعلية، بالطبع ليس من أجل الديمقراطية وحقوق الإنسان كما يدعون، ولكن من أجل إضعاف تلك الدول لتسهيل نهب ثرواتها من قبل الامبرياليين الاستعماريين. ومن يمكن أن يكون مؤهلا فى المنطقة للمشاركة فى تنفيذ مثل تلك المخططات أكثر من قوة لا تؤمن بالأوطان؟! فالإخوان المسلمون يعتبرون الوطن والعلم والأرض من قبيل أصنام العصر الحديث، المرتبط بجاهلية القرن العشرين كما يسميها سيد قطب. وهم يهدفون إلى بناء الخلافة الإسلامية التى تتوارى أمامها الأوطان وتتضاءل أهمية قطعة من الأرض هنا أو هناك تعلن دولة منفصلة أو تلحق بهذا الوطن أو ذاك، أو يلتحق الوطن بالخلافة وهو بكامل ترابه أم مقسما إلى دويلات لا يهم!
وخلال أزمة الانتخابات الرئاسية فى مصر فى يونيو 2012 حذر وليام تايلور، الذي يحمل لقب “المنسق الخاص لتحولات الشرق الأوسط” في وزارة الخارجية الأمريكية، حذر عسكر مصر من القيام بـ”انقلاب عسكري”، في كلمة له في مؤسسة “مجلس الأطلسي”، مؤكداً أن الولايات المتحدة ستقبل بهدوء فوز الإخوان المسلمين (وقد تكررت مثل هذه التصريحات على لسان مسؤولين أمريكيين كبار منهم هيلاري كلينتون). وكان اتفاقاً سرياً حول دعم الولايات المتحدة لنشاطاتهم قد تم التوصل إليه في شهر نوفمبر 2011 في فرانكفورت بين فريق من وكالة المخابرات المركزية الأمريكية CIA بقيادة مدير الوكالة ديفيد بتريوس وممثلين عن قيادة الإخوان المسلمين.
كان الظن أن الاتفاق بين الولايات المتحدة والإخوان المسلمين يقتصر على التعهدات الضرورية باحترام كامب دافيد والسلام مع إسرائيل، وإقرار سياسة نيوليبرالية فى الاقتصاد (هى على أى حال عقيدة الإخوان الاقتصادية)، إلا أن الواقع دائما أكثر غنى! أولا دفع الإخوان بالسياسات النيوليبرالية إلى مداها من خلال قانون الصكوك (أداة خصخصة أصول الدولة ومرافقها الخدمية من محطات كهرباء ومياة وصرف صحى ومدارس ومستشفيات وسكك حديدية وغيرها) ومشروع قانون تنمية إقليم قناة السويس، والذى يعيد عهد الامتيازات الأجنبية، إذ ينص على استثناء هذا الإقليم من سيادة القوانين المصرية وسلطة الوزارات وحتى أحكام الدستور ويتبع فقط رئيس الجمهورية (مع تحفظات محدودة بخصوص سلطة الجيش والشرطة والقضاء).
ولنمض إلى أبعد من ذلك ونتذكر أن اتفاقية الجاتس (تحرير التجارة فى الخدمات)، وهى إحدى اتفاقيات التجارة العالمية لمنظمة التجارة العالمية السارية منذ عام 1995 تنص على تحرير الخدمات فى المجارى المائية العملاقة (حيث شركة قناة السويس هى كلها عبارة عن شركة خدمات فى المجارى المائية العملاقة) بتحويلها إلى شركات وطرح أسهمها بحيث لا يزيد نصيب الحكومة فيها عن 20%. وهذا البند اختيارى، ولكن اتفاقية الشراكة اليورو – متوسطية بين مصر والدول الأوروبية تنص على 6 تحويل الاختيار فى هذا البند إلى التزام! إذ تنص المادة 29 من اتفاقية الشراكة اليورو – متوسطية على: “يؤكد الطرفان على التزامات كل منهما بشروط الاتفاقية العامة للتجارة فى الخدمات (جاتس) الملحقة بالاتفاقية المنشئة لمنظمة التجارة العالمية” وبناءً على هذا فإن خصخصة شركة قناة السويس واجبة، علما بأن الاتفاقية المصدق عليها عام 2003 تدخل حيز التنفيذ على مراحل آخرها عام 2016! والحل الوحيد هو تحفظ مصر على البند 29 من اتفاقية الشراكة المصرية الأوروبية، وهو مالم يتم حتى الآن، حيث يمثل بالطبع أحد مهام الثوريين فى تلك المرحلة.
إذن يدفع الإخوان الخصخصة إلى مداها ويبيعون البلاد. وليس هذا كل شيئ! فاتفاق الولايات المتحدة مع الإخوان يتضمن، على نحو ما أوردته صحف الوطن والدستور فى الفترة الأخيرة فى أعداد كثيرة، ترتيبات خاصة بسيناء تتضمن:
• منح الفلسطينيين مساحة 720 كيلومتر مربع (حوالى 1% من مساحة سيناء) المجاور لغزة فى إطار الحل الإقليمى لمشكلة غزة والضفة كل على حدة، لتفريغ الازدحام السكانى الفلسطينى فى غزة ولإمكانية بناء ميناء فلسطينى بجانب العريش حيث إن مياه البحر المتوسط المقابلة لغزة ليست عميقة بما يكفى لإنشاء ميناء دولى، مقابل مساحة مساوية من صحراء النقب.
• منح الفلسطينيين 40% من سيناء للتوطين فيها، وهو ما يفيد بشكل خاص فى توطين الفلسطينيين المقيمين حاليا فى الأراضى المحتلة عام 1948 فى إطار مشروع يهودية الدولة.
• منح 60% الباقية من سيناء لإنشاء إمارة إسلامية، أو ضمها للدولة الإسلامية فى جزء من مصر!
ولنتذكر هنا أيضا أن المادة 69 من اتفاقية الشراكة اليورو-متوسطية تنص على “يتفاوض الأطراف، بناء على طلب أى منهم، لإبرام اتفاقات ثنائية فيما بينهم، تنظم الالتزامات المحددة لإعادة توطين مواطنيهم. وتشمل هذا الاتفاقات أيضا، إذا ما اعتبر أى من الأطراف ذلك ضروريا، ترتيبات لإعادة توطين مواطنى دول ثالثة (!!!)،..ويتم توفير مساعدات مالية وفنية كافية لمصر لتنفيذ هذه الاتفاقات” وبهذا تضع الاتفاقية أساس طلب التوطين لدولة ثالثة، فلسطين المطروحة بالطبع، مع الاستعداد الأوروبى لتحمل التكلفة كاملة!!! ويذكر أن مبارك قد رفض أثناء رئاسته حل توطين الفلسطينيين فى سيناء.
بل تردد الحديث أيضا أن تعهد محمد مرسى للبشير أثناء زيارته للسودان بالتنازل عن حلايب وشلاتين يأتى فى إطار محاولة إقناع السودان بضم إقليم دارفور (الغنى بالبترول واليورانيوم) إلى الجنوب الخاضع أكثر للغرب وأمريكا.
وأشارت جريدة الدستور إلى محضر الاجتماع السرى الذى عقد فى الكونجرس الأمريكى مؤخرا لمسائلة الرئيس أوباما عن المساعدات التى قدمها للإخوان والبالغة ثمانية مليارات دولار دون أخذ موافقة الكونجرس عليها. أجاب أوباما بأنها أربع مليارات فقط، وعندما أصر السائل على إنها تبلغ ثمانية أجاب بأن هذا ربما يتضمن أيضا المساعدات العينية!
وبالطبع يمكن تخيل كيف تسير الأمور: فالكونجرس يجب أن يوافق على أى ميزانيات منصرفة، ولكن من حق الرئيس الأمريكى أن ينفق على مسئوليته مبالغ يراها ضرورية للأمن القومى الأمريكى، ولكن عليه أن يبررها فى حالة المساءلة. وبالطبع فإن أوباما كان واثقا من أن أحدا فى الكونجرس لن يرفض صرف تلك المبالغ فى حال حققت الغرض منها بتنفيذ خطوات فى مشروع الشرق الأوسط الكبير وتوطين الفلسطينيين فى سيناء. أما مالم يكن فى الحسبان فهو إفساد هذا المشروع على يد الشعب المصرى عن طريق إسقاط حكم الإخوان، وهو ما يفسر جزئيا استماتة الولايات المتحدة فى محاولات إنقاذ حكم الإخوان، واستهداف عودة مرسى فى البداية، ثم عند التحقق من استحالة هذا، استهداف استمرار الكيانات السياسية للإخوان كطرف فى الحياة السياسية المصرية دون حل أو عزل على أمل العودة فى انتخابات ما فى المستقبل!
نقطة أخرى جديرة بالتوقف عندها فى سياق احتمالات التفتيت الإقليمى للمنطقة. ما هو تفسير موقف المملكة العربية السعودية والإمارات التين سارعتا بالمساندة السياسية للثورة المصرية شاملا التبرع بمبالغ ضخمة، على عكس سياسة الولايات المتحدة التى تتزعم مهاجمة مصر؟ ومنذ متى نشهد مثل ذلك التضاد فى السلوكيات بين الحلفاء، أو الزعيم والأمريكى والتابعين العرب؟ والتفسير الوحيد الذى نراة منطقيا هو أن تلك الدول التى قدمت كل ما تستطيع للولايات المتحدة الأمريكية قد اكتشفت أن الولايات المتحدة قد غيرت رهانها ليصبح على الإخوان المسلمين، وأعطتهم ضوءا أخضر لمحاولات السيطرة على المنطقة تمريرا لمخططات تفتيت تلك الدول نفسها. ولنراجع ما حدث عند اكتشاف المجموعة الإخوانية التى كانت تعد لانقلاب فى الإمارات، والتى تضم مواطنين إماراتيين ومصريين عاملين هناك، وكيف حاول مرسى جاهدا إطلاق سراحهم دون جدوى. وترددت أخبار عن محاولتهم إغتيال ضاحى خلفان قائد شرطة دبى ردا على اعتقال الإخوان.
وبالعودة إلى السؤال الذى بدأنا به مقالنا: هل هناك خطر جدى لتفتيت الدول العربية؟ نجيب فى رأينا بالإيجاب، فهناك عناصر متعددة تجعل ذلك الحلم الصهيونى الإمبريالى القديم ممكنا:
• فالتوازن الدولى القائم منذ عام 1991 على النظام أحادى القطبية قد أطلق أشد ميول الإمبريالية العدوانية رجعية، والأمثلة الدولية أكثر من أن يتم حصرها كما سبق توضيحه.
• والضعف المؤقت لبلادنا الناتج عن مرحلة الانتقال المتواكب مع الثورات العربية ووضع السيولة السياسية، يعطى من الثغرات ما يغرى بمثل هذا العدوان.
• وجود قوة سياسية كبيرة فى الداخل (الإخوان المسلمين) لها قدر من الجماهيرية وغير وطنية فى عقيدتها وعندها الاستعداد من أجل طموحها فى السلطة أن تلعب دور مخلب القط فى هذا المخطط.
• يثير وجود الثورات العربية أسوأ مخاوف الإمبريالية بدخول عنصر قوة كبير فى المعادلة السياسية، أعنى قوة الشعوب، مع معرفة الإمبريالية جيدا بسيادة روح من العداء للولايات المتحدة بين الجماهير العربية وعدم اطمئنانها إلى مستقبل سيطرتها المتحقق فعليا والتبعية الاقتصادية والعسكرية القائمة والواجب تأمينها بمزيد من إضعاف الكيانات القومية القائمة، مما يدفعها إلى النزوع العدوانى لضمان مصالحها الهائلة فى المنطقة ككل بما فيها النفط.
ولكن هناك مسافة كبيرة بين وجود الإمكانية المجردة وتحول الإمكانية إلى واقع، فما هو مدى إمكانية تحقق مخططات التقسيم القومى؟ أو بالأحرى، بعد استعراض العناصر المواتية لتحقق تلك الإمكانية، ما هى العناصر المضادة، أو المحافظة على التماسك القومى نفسه؟
أولا: الثورات العربية نفسها، والتى تعد إضعافا للتماسك فى مواجهة المخططات الاستعمارية فى المدى المباشر، تعد عنصرا شديدا للقوة بإضافة قوة الجماهير الوطنية الفاعلة والمعادية بالطبع لكل المخططات الإمبريالية الدافعة للتقسيم. ولنرى مثال التطور الهائل الحادث فى الوحدة الوطنية المصرية بين المسيحيين والمسلمين خلال سنوات الثورة القليلة، وبالرغم من الجرائم الهائلة المرتكبة فى حقهم خلال الشهر الأخير منذ فض اعتصامى رابعة والنهضة، والتى اشتملت على حرق أكثر من ستين مبنى دينى بين كنيسة ودير ومدرسة وخلافه، غير المحال والممتلكات الخاصة المسيحية، فالمسلمون والمسيحيون يتضامنون مع بعض ضد الإرهابيين، والمسيحيون يرفضون قطعيا التدخل الأجنبى. وهناك درس من التاريخ المعاصر فى الحرب العراقية الإيرانية عام 1980: فإيران أقوى استراتيجيا من العراق من زاوية الثقل الديمغرافى (السكانى) والعمق الاستراتيجى وامتلاك جيش قوى بالإضافة إلى ثرائها النفطى. وما أغرى العراق بالهجوم عليها كان الضعف المؤقت الناتج عن الثورة الإيرانية وما تبعها من تفكك للنظام والمؤسسات وإعدامات للعسكريين وغيرهم. إلا أن ما انتصر فى النهاية هو إيران نظرا لعنصر القوة المتمثل فى الثورة نتيجة لروح الشعب المليئ بالإحساس بقوته التى أطاحت بالشاه وبالتالى ترفض الركوع أمام صدام حسين.
ثانيا: تغير لوحة التوازن الدولى عما كانت عليه فى أعقاب سقوط الاتحاد السوفيتى، وبروز عصر العالم متعدد الأقطاب ويكفى النظر لمواقف الصين وروسيا. إن استعادة روسيا لتماسكها فى عهد بوتين بدءا باستعادة ثروة النفط التى تم خصخصة قسم منها بصفقات يشوبها الفساد أيام يلتسين (عن طريق محاكمة الإمبراطور المالى خودورفسكى وبيع شركاته النفطية سدادا لما عليه من ضرائب وقيام شركة جاز بروم الحكومية بشرائها) ثم استخدام عائدات النفط فى استعادة تماسك جهاز الدولة تدريجيا، ثم الاستئناف التدريجى للدور الدولى العسكرى والاستراتيجى واستئناف تطوير الصناعات العسكرية وحتى دوريات الطيران بعيد المدى وتطوير الأساطيل العالمية وغيرها. بالطبع ليس هناك استعادة لدور الدولة الاشتراكية الداعمة لحركات التحرر الوطنى، ولكن وجود إمبريالية منافسة على الصعيد العالمى يطرح بديلا ومنافسا ويخلق وضعا أفضل أمام دول العالم. أما الصين فإن صعودها إلى مستوى القوة الاقتصادية الثانية عالميا وبنائها لحاملات طائرات وامتلاكها لقاعدة تكنولوجية مستقلة متطورة وتطويرها لوجودها العسكرى الإقليمى والدولى والفضائى وبروز دورها الأفريقى، بالرغم من ابتعاده عن دور دولة تقدمية ولكن فى حدود دولة مصدرة للسلع والرساميل مثل روسيا وغيرها ولكن بشروط أفضل من الغرب، كل هذا يؤشر لعالم جديد متعدد الأقطاب ويطرح وضعا دوليا أكثر مواتاة لمصالح دولنا ومنطقتنا. ودليلنا على هذا ما عرف بإنذار بوتين بأن المساس بالأمن القومى المصرى يعد مساسا بالأمن القومى لروسيا فى أعقاب تحرك البوارج الأمريكية تجاه السواحل المصرية فى أعقاب 30 يونيو الماضى.
هل نحن على أبواب تغير استراتيجى يتضمن مواجهة مخططات الغرب البالغة فى عدوانيتها وطموحها لتفتيتنا القومى بما يتضمن مواجهة العميل المحلى، الإخوان المسلمين؟ هل تتغير شبكة علاقات التبعية ويعطى الوضع الدولى الجديد إمكانية تقليص التبعية لبعض أطراف النظام الدولى والاستفادة من تناقضات الوضع الدولى الجديد لتحقيق بعض المكاسب؟
هناك عنصران مترابطان لابد من فهمهما معا. الأول هو أن الحلم الشعبى الذى بدأ فى الانتشار فى مصر حول إلباس الفريق السيسى لباس عبد الناصر واستخدام روسيا فى مقاومة أمريكا لا مكان له لأن لا روسيا اليوم هى روسيا الخمسينات ولا الرأسمالية المصرية اليوم هى رأسمالية التحديث ومواجهة الاستعمار القديمة وبالتالى فإن استعادة الوضع القديم بكاملة مستحيلة.
وثانيا: هناك إمكانية للتغيير بالطبع فى شبكة العلاقات تتيح تقليص التبعية الحالية لأوروبا الغربية والولايات المتحدة والبدء بمواجهة بقدر ما، ولكن من المبكر القول بأن هذا هو الطريق الذى سيسير فيه النظام نظرا لعبئ علاقات التبعية الحالية السياسية والاقتصادية، ولكن الإمكانية يجب بالتأكيد أخذها فى الحسبان، ويبقى التاريخ دائما هو ما سيرينا فى أى اتجاه تتحرك اللوحة الحالية لميزان القوى والوضع الأصيل تاريخيا.
عن الجديدة.