الذين لم يفهموا خصوصيات المغرب وطريقته الاستثنائية في تدبير التحولات عليهم أن يسمعوا الأرقام التي أدلت بها وزارة الداخلية أثناء مناقشة الميزانية الفرعية للوزارة، أرقام تتعلق بالاحتجاج في المغرب، حيث شهدت ثمانية أشهر الماضية من السنة الحالية حوالي 11 ألف شكل من أشكال الاحتجاج، وذلك بمعدل 44 شكلا في اليوم، وأصرت الوزارة على أن هذه الاحتجاجات تتم وفق ثلاثة معايير لا يجوز التعارض بينها، وهي تمكين المواطن من حقه وحرياته المكفولة وفق القوانين الجاري بها العمل وضمان سلامة المشاركين في التجمعات المنظمة والحرص على عدم المساس بباقي الحريات. التجمعات الاحتجاجية ليست شيئا جديدا على المغاربة. الجديد هو طريقة تعامل السلطات معها. وإلا فإن المغاربة ومنذ بداية تأسيس الديمقراطية وهم يحتجون بل يمكن أن نقول إن المغاربة كانوا يحتجون حتى قبل أن يعرفوا التنظيمات العصرية، وكان المغاربة يمارسون الاحتجاج من خلال أدوات الدفاع الشعبي كالزوايا والقبائل وغيرها. لكن بعد أن عرف المغاربة أشكال التنظيم العصري تطورت أشكال الاحتجاج الاجتماعي والسياسي، وعرف تاريخ المغرب فلتات أثرت على الاحتجاج، لكن المغرب طور ترسانته القانونية حماية للحق في الاحتجاج وللحق في عدم الاحتجاج أيضا، فقد قرن بين حق الإضراب ومنع التعرض لمن لا يرغب في الإضراب، وجعل الاحتجاج حقا دستوريا لا يمكن التراجع عنه. غير أن المغرب شرع في تطوير القوانين المنظمة حتى لا يبقى الاحتجاج عبارة عن فوضى، وطور المغاربة فهمهم وثقافتهم المتعلقة بالاحتجاج، كما طورت الدولة رؤيتها للاحتجاج وبصمت عليه بالدستور الذي يعتبر أسمى وثيقة مرجعية للمغاربة حيث نص على أن حريات الاجتماع والتجمهر والتظاهر السلمي، وتأسيس الجمعيات، والانتماء النقابي والسياسي مضمونة. ويحدد القانون شروط ممارسة هذه الحريات. وحق الإضراب مضمون. هذه التحديدات القانونية والدستورية هي التي حمت المغرب من موجات الفوضى التي حدثت في بلدان أخرى، أي أن المغاربة صنعوا الربيع سنوات قبل أن يسمع به العرب الذين عاشوا تحت أنظمة تخنق الأنفاس. وفي حوار بين مغربي وأحد المشارقة ممن قادوا الربيع العربي أو أوحي لهم بقيادته، وحاول هذا الأخير أن يصور على أن المغرب لم يعرف ثورة كما حدث في البلدان الأخرى، فأجابه المغربي أن بلدنا في عز سنوات الرصاص كان أحسن منكم حالا بما أنتم عليه اليوم، فأقصى ما جاء به الربيع هو حرية تأسيس الأحزاب والنقابات والجمعيات، وهذا الموضوع فرغ منه المغرب منذ سنوات حتى مع انخفاض في منسوب الحريات، لكنه أسس لما وصل إليه اليوم من حريات مضمونة ومضبوطة. الاحتجاج الذي اكتشفته بلدان الربيع العربي في شكل فوضى وصل في المغرب مرحلة الدسترة والتقنين. ومن لم يفهم التطور الذي عرفه المغرب على هذا المستوى لن يفهم طبيعة النظام في المغرب ولن يفهم معنى الاستثناء المغربي.