أشعر دائما بأن كلمة شعب غير واضحة ومبهمة وفضفاضة، وأشك في كل الذين يقولون إنهم مع الشعب، ومن يرددون"الشعب يريد".
معظم الذين تبنوا الشعب، اكتشفنا مع الوقت أنهم كانوا ضده، الدكتاتوريات التي تساقطت وتتساقط تباعا، كانت بطلة في الحديث باسم الشعب، قبل أن يظهر جليا، أنها كانت تسرق وتقتل باسمه، وكان الشعب ضحيتها الأولى.
الساسة أيضا يستغلون هذه الكلمة، ويدافعون عن الشعب، لكنهم في الحقيقة يوظفون غموضها وهالتها لأغراضهم الخاصة.
لم يعد من الممكن أن تسمع رجل سياسة في الغرب يحترم نفسه يتحدث عن الشعب بكل هذا التعميم، لأنه يعرف أن الرأي العام لن يصدقه لو فعل ذلك، فالشعب ليس كتلة متجانسة، ولا يمكن لأي أحد يدعي المصداقية أن يمثل الشعب بكل أطيافه وشرائحه ومصالحه.
إنها كلمة ساحرة ومغرية وتثير الحماس، لكنها غير موجودة في الواقع، إنها كذبة حين تقترن بالسياسة وبالنضال وبالعمل النقابي، هناك شعوب داخل الشعب الواحد، وهذه الشعوب لا تريد نفس الشيء وليست لها نفس الحاجيات، والشعب ليست له نفس المطالب، هناك المعدم والغني والفئات المتوسطة وغير المتموقع في أي شريحة، و من يدعي أنه ينطق باسم كل هؤلاء ويقول إن"الشعب يريد" هو بالضرورة يكذب ويرفع الشعار، بينما الحقيقة شيء آخر.
في الديمقراطيات الناجحة صارت هذه الكلمة ممجوجة وغير مستحبة، كما أصبحت حكرا على غير الديمقراطيين، هم فقط من يستعملها، اليمين المتطرف الذي يكره الأجانب والثقافات الأخرى باسم الشعب، واليسار الستاليني الذي مازال يحن إلى الديكتاتورية والعمال والطبقات المقهورة باسم الشعب.
لقد تغير العالم كثيرا وحتى مفهوم الطبقة لم يعد يعني ما كان يعنيه، هناك تلطيف للصراع الآن، والفئات والشرائح عوضت كلمات كانت ذات سطوة وإغراء في زمن مضى، والشعب أيضا لم يعد كما كان في السابق، حيث يقتسم الناس الآن المصالح كل من موقعه، ضدا على دولة للفقراء وأخرى للأغنياء، كما كان عليه الوضع في زمن الإيديولوجيات القطعية.
بعض الجهات تستغل الشعب باعتباره فزاعة، تخيف بها الآخرين، وتلجأ إليه حين تحتاجه، ليصبح كلمة سحرية تصلح لتحقيق المكتسبات أو للضغط. السلطة بدورها لها قدرة خارقة على توظيف"الشعب"حين تحتاج إلى ذلك، وتعمل على عجنه ليصير كتلة واحدة، وتقوم بذلك حين تشعر بالخطر وخلال الأزمات وأثناء مواجهة عدو داخلي أو خارجي مفترض.
أحيانا يخرج الشعب إلى الشارع ويحتله، والذين يهيجونه، يغيبون كل من لم يحضروا باعتبارهم أعداء لهذا الشعب المختار، ولا ينتمون لهذه الجموع التي تمنح لنفسها الحق في رفض المؤسسات والهجوم على الإدارات واحتلالها، باسم هذه الكلمة الغامضة، ولو تناقض ذلك مع القانون ومع قيم المجتمعات الحديثة، التي اخترعت الانتخابات والبرلمانات لتكون وسيطا يمثل المواطنين ويشكل أداة عصرية لتدبير المطالب والاحتياجات وللحديث باسم كل الفئات.
الشعب كلمة معومة وغامضة، تعني كل شيء ولا تعني أي شيء بالمرة، ولذلك يجد الذين ينطقون بها راحة كبرى برفعها في اللافتات و الصدح بها في المظاهرات، لكن من هو الشعب، وأين هو بالتحديد؟ ولماذا هناك دائما من يلح على احتكار النطق باسمه؟ !
حميد زيد رئيس تحرير الشروق