ليس مجرد فعل تشويش جديد ما أقدم عليه نظام الحكم القائم في الجزائر في حق المغرب، بل إمعان في الإيذاء عن سبق إصرار وترصد ومن طرف أعلى هرم في السلطة.. اليد التي تبسط لها يدك لدفن سوءات الماضي وقطع نهر التحولات الهادر سويا، تسبح ضد التيار ولا تجيد سوى وسيلة الخنق وتعميق الجرح.
إنها اليد التي لدغتنا من جحر مرات بعد ما ظننا أن بوسعنا أن نتقاسم الطعام كما يجدر بإخوة وأجوار عاقلين. اليد التي تدس كل مرة السم في المائدة اعتقادا منها أننا غافلون أو مغفلون عما يستهدف تماسكنا الداخلي الصلب ووحدتنا الوطنية المنيعة.
الإمعان في الإيذاء وإلحاق الضرر ليس جديدا. لقد فوت نظام الحكم هذا على آبائنا مباهج قطف ثمار العيش المشترك الرغيد، ونغص علينا وما يزال نعمة التلاقي والتآخي والاندماج لاقتحام الآفاق الرحبة للمنافع المتبادلة دون مكائد أو ضغائن.. أربعة عقود مضت ولازال السؤال المحير ذاته عالقا، والآن أيضا على شفاه أبنائنا: أما آن لهذا الليل الحالك أن ينجلي..
من منا لا يتذكر لما كنا صغارا ونحن نؤدي تحية العلم كل صباح أو نشاغب في أوقات الاستراحة في ساحات مدارسنا، ذاك المشهد الصاعق لأسر من ذوينا تكدست في “الداخليات” بعد أن طردها نظام الجارة الشقيقة مجردا إياها مما كسبت أيديها هناك. أزيد من 45 ألف عائلة أبعدت قسريا يوم عيد أضحى مبارك. يا لهول الصدمة!..
لازمة “تصفية الاستعمار في الصحراء الغربية” أضحت مكرورة ومبتذلة في الخطاب الرسمي الجزائري إلى درجة السأم. الجديد في الأمر هو أن أصحاب اللازمة، حراس القلاع القديمة، أرادوا إضافة مذاق آخر لوجبتهم الباردة علهم يسوقونها بعد طول كساد، إلا أن الرائحة الكريهة ذاتها أزكمت الأنوف أكثر جراء بهارات فاسدة..
مرة أخرى يسقط القناع ويكشف صاحبه عن مزاحه السمج.. فكيف لنظام شمولي جامد لم يأخذ من الديمقراطية سوى الرتوش والمساحيق، لإعادة إنتاج الوضع القائم المتأزم ببلده في ظل متغيرات عاصفة، يسمح لنفسه بإفتاء دروس في صون الديمقراطية وحقوق الإنسان، وعلى مسمع ومرأى العالم المتحضر، على دولة تشهد بالواضح لا بالمرموز تحولا سلسا ومميزا في تدبير شتى أوراشها على قاعدة النقاش الديمقراطي والتدافع السياسي المحتكم للإرادة الشعبية..
مع التقدم في العمر يحتاج المرء، من حين لآخر، لاستشارة مصحات طب العيون قصد تصويب النظر.. إنها القاعدة الطبية السليمة التي تسري على أحوال السياسة أيضا. لكن العلاج يصبح صعب المنال عند انتفاء البصيرة لا ضعف البصر فحسب. انهارت منظومات فكرية وإيديولوجية وأنظمة سياسية تليدة وجرت مياه كثيرة تحت الجسر، ولازالت طغم حاكمة تراهن على وقف عجلة التاريخ، ولاستحالة ذلك تعطيلها على الأقل. إنه الرهان الخاسر والباطل بطلان الوهم الذي يسند أطروحة باتت جد مهلهلة من فرط استخدام أسطوانتها المشروخة.
أي عاقل سيصدق أسطورة تقرير مصير شعب حيكت وفصلت مقومات على المقاس وعبئت طاقات هائلة لإيهام العالم بوجوده. الوجود بالقوة لا الوجود بالفعل كما علمتنا دروس الفلسفة!.. مسرحية هزلية فاشلة انفض من حولها الجمهور لأن نصها فارغ وإخراجها رديء وديكورها واهن وهن بيت العنكبوت..
احتضان مخيمات بئيسة، وتنصيب قيادة (صحراوية !) يتحكم فيها سادتها بالقيادة المركزية الحاضنة بالريموت كنترول، وتسخير المال والعتاد للقضية (الوطنية الأولى!)، وحشد الدعم الداخلي والخارجي، والكولسة في الدهاليز المظلمة، ونفخ الأبواق المأجورة لترويج الوهم.. وكانت النتيجة مأساوية للغاية. انقلب السحر على الساحر. انكسر القمقم وخرج المارد اللقيط.. المنظمة (الثورية !) العتيدة أضحت معملا لتفريخ الإرهابيين المفرقعين للسلاح والمفجرين للأحزمة الناسفة بشهادة هيئات وحكومات دول مرموقة.. أية قضية عادلة هذه المحتضن (بفتح الضاد) يهدد الحاضن في عقر داره وفي الجوار في فيلم مافيا رهيب الوقائع والأطوار..
وأي عاقل سيصدق أن مصدر النزاع هو “الاحتلال العسكري المغربي للصحراء الغربية”. العالم كان شاهد عيان على عظمة وعبقرية شعب خرج في مسيرة خضراء سلمية حاشدة لم يشهد لها التاريخ مثيلا لاسترجاع أرضه. كان شعبا من لحم ودم، لا مشهدا سينمائيا من مشاهد التيه في الصحراء.. لا يكشف الحديث عن احتلال في غير سياقه عن موقف استفزازي وعدائي فحسب، إنه سبة في حق شعب بذل ولا يزال يبذل الغالي والنفيس للذود عن سيادة وطنه.
ينم الموقف الرسمي للنظام الحاكم في الجارة الشقيقة، المعادي لسيادة المغرب على صحرائه، عن سكيزوفرينيا فاضحة. هو مشهد سوريالي يشبه من يضع المسدس فوق رأسك ويطالبك بضبط النفس!.. المضحك – المبكي في المشهد ذاته، أن النظام الحاكم هذا عبر عن “أسفه” لقرار المغرب استدعاء سفيره، وقرر عدم مقابلته بالمثل. بل زاد من جرعة غيه بالقول إن هذا القرار “غير المبرر يمثل تصعيدا في غير محله يرتكز على حجج مضللة تمس بسيادة الجزائر” !. حقا إنه التجسيد الأمثل للمثل الدارج على ألسنتنا (ضربني وبكى وسبقني واشتكى).
ولم يفت رئيس دبلوماسية النظام الحاكم هذا، طمأنتنا بأنه سيواصل التزامه بضبط النفس!، داعيا “الأشقاء المغاربة” الحذو حذوه، بعد أن اعتبر مواقفهم وردود فعلهم على موقف قائده المبجل “غير مسؤولة وغير مقبولة”. أكان ينتظر الوزير “الشقيق اللذوذ” أن نتداول هجوم أعلى هرم في سلطة الجارة الشقيقة علينا بالبساطة ذاتها التي نتداول بها الأخبار والمواقف في المقاهي عن تقلب الأسعار في الأسواق ونتائج مباريات كرة القدم للفرق المحلية والأجنبية..!
مدفوعة بحسها الوطني الصادق، وليس تحت الطلب كما هو حال أبواق زاعقة وأصوات صاخبة مأجورة في الطرف الآخر، انبرت أقلام داخل الوطن، وستظل تفعل، للدفاع عن قضية وطنية مقدسة، عن صوت حق يصدح به شعب عن بكرة أبيه وبكل فئاته، ثم شتان بين صرخة المظلوم صاحب الحق ولغط الظالم المغتصب لهذا الحق..
هو موقف نظام الجارة الشقيقة وحده، أما الشعب الشقيق فهمومه وانشغالاته مختلفة تماما. لقد عاشر المغاربة أشقاءهم الجزائريين عبر التاريخ، دخلوا بيوتهم وأكلوا على موائدهم. و ارتبطوا بهم بوشائج صادقة و حميمية.. لم تباعد بينهم السياسة ولم يحدث قط أن جرح أبناء الشعب الجزائري الشعور الوطني للمغاربة بموقف مماثل لموقف النظام الحاكم لبلدهم.. على العكس تماما، كانوا متلهفين ولازالوا لفتح الحدود البرية لعبور أرجاء “الوطن الواحد” بطلاقة وحرية، والانتفاع جماعيا بمباهجه وخيراته، وكانوا متطلعين ولازالوا لذوبان الجليد في العلاقات الثنائية.. الجليد المفروض فرضا، جورا وظلما، لخدمة أغراض ومطامع طغمة متسلطة، نافذة ومنتفعة، لم تعد حساباتها ومناوراتها خافية على أحد.