عبَرت الحكومة مفازة سياسية بالغة الوعورة حتى بلغت باحة التعيين الملكي لها.... وخلال ذلك العبور، شطّ الحزب المديرُ للحكومة بعيدا عن خط الائتمان الديمقراطي الذي رسمه الدستور للعمل السياسي. في ذلك العبور الطويل كانت السياسة، بمعنى ما بعد إقرار الدستور الجديد، هي الغائب الملحوظ... وأبرز ما كان باديا من مناورات الحزب الممسك بتلابيب الحكومة، محاولته أكثر من مرة استدراج المؤسسة الملكية إلى معترك المفاوضات والمناورات والمشاكسات الحزبية، متوسلا نصرتها لإدعاءاته، و"ملتمسا" تعطيلها لمنطوق ولروح الدستور، و آملا مسحها للحدود الفاصلة بين المؤسسات واكتساحها لفضاءات الحكومة. تلك الفضاءات، التي كان الملك محمد السادس هو أول من وسعها واقتطع لفائدتها الكثير من مساحات التحرك الملكي في خطاب 9 مارس 2011. وهو ما سيؤشر عليه الدستور، ويسجله "عقارا" محفظا في طوبوغرافيا مؤسسات تدبير العمران المغربي... أحجمت المؤسسة الملكية عن الانقياد للتوسل التدخّلي، بالتلميح وبالتصريح، وتركت للأحزاب المعنية مجال وصلاحيات التكوين الذاتي للحكومة، إعلاءً - وليس تنزيلا - لموجّهات الدستور وغاياته التاريخية... و لتثبيت دولة المؤسسات على قاعدة شعار"من كل مؤسسة حسب واجباتها ولكل مؤسسة حسب حقوقها".
خلال أشهر إعادة صياغة الحكومة والأغلبية الحزبية الحاملة لها، انصرف ملك المغرب إلى ما يتصل بمهامه التوجيهية الإستراتيجية، والتي تغذي العمل الحكومي وتفتح أمامه مجالات الفعل في منجزات المغرب، دون أن تسطو على صلاحياته أو تهمش دوره... الزيارة الملكية لدولة مالي وما تؤشر عليه من تسليم الحكومة "طريقا سيّارا" آخر للتوجه نحو إفريقيا، سياسيا، اقتصاديا وثقافيا... خطة التأهيل الحضري لطنجة في الشمال، وبرنامج الاستثمار الفلاحي والاجتماعي والاقتصادي للواحات في الجنوب... والنهوض بخطة التكوين المهني في المهن المستقبلية، وصناعة الطيران بخاصة منها... مشاريع من عدة ذات بعد مستقبلي، هيكلي واستراتيجي، تدعم النهضة المغربية وتمد الحكومة بمجالات عمل أوسع وبرامج أوضح وأنجح...حين تنتهي من إعادة صياغة بنيانها ....المغرب لديه استحقاقات و محكوم بمواصلة التحرك والتقدم، و لا يملك "حق" الارتهان لمفاوضات سياسية بين أطراف حزبية ليست على عجلة من تحديات البلاد و تطلعات هذا الشعب.
بُعيد تشكيل الحكومة، ليس لدى المغرب الوقت الفائض حتى ينفقه في الاحتفال بانقشاع "أزمة" تشكيل أغلبية جديدة... نحتاج إلى تدارك ما أضعناه في متابعة مسلسل بلا نكهة ولا أبطال ولا تشويق... سيفعّل جلالة الملك مهامه القيادية، بنبرة أقوى، ليتوجه إلى الأمة من خلال مجلسي البرلمان، الجمعة المنصرم، بخطاب يخترق نفس تاريخي جمله، وله بعد توجيهي لمجموع مكونات الشعب المغربي ونسيج سلطه ومؤسساته.
يمكن اعتبار الخطاب الملكي، خطاب الحقيقة، خطاب المكاشفة، خطاب التعبئة، خطاب التنبيه، خطاب الإنذار... سواء تفرقت تلك التسميات أو اجتمعت في الخطاب الملكي، فإنها تفيد المعنى نفسه... دعوة كل المغاربة والأحزاب المؤطرة للتدخل الشعبي في الشأن العام وفي مقدمتها أحزاب الأغلبية البرلمانية، المفترض فيها أنها تمارس بالسلطة التنفيذية ومسؤولة على حسن تدبير الشأن العام من منطلق تعاقدها مع المغاربة في الانتخابات...دعوة الجميع، و إن بتفاوت في المسؤوليات، إلى فرملة تردي العمل السياسي إلى ما قبل دستور 2011، والتحريض على صون اندفاع المغرب نحو التقدم، مذكرا، جلالته، بأن ذلك يمر حتما ووجوبا عبر تكريس وحدتنا الوطنية، أرضا وشعبا، وانتصارنا لجدلية التفاعل بين المسار التنموي الديمقراطي والمسار الوطني تثبيتا لارتباط أقاليمنا الصحراوية بالوطن وحماية للوطن من مخاطر مؤامرات الخراب والإرهاب.
الملك يعلن النفير العام في البلاد... بالحاجة إلى الجدية في اعتبار أن الديمقراطية: نعم مؤسسات، ونعم مجالس ونعم تعددية حزبية، ونعم حقوق، ولكن أساسا مواطن ووطن، وبالتالي هي معنى له سياق تاريخي وجوهر مبدئي.
المعنى بسياقه الوطني وبجوهره الديمقراطي المبدئي، ذلك المعنى هو ما يغيب في تدبير العديد من المؤسسات المحلية المنتخبة، و هي المنتمية سياسيا وزمنيا لما قبل النقلة الديمقراطية النوعية المغربية في ربيع 2011...والمثال الفاقع من إدارة مجلس الدار البيضاء في تدبيره لأشغاله ولمهامه وواجباته تجاه الساكنة... الحاضر في صورة المجلس، مجرد التعطيل للاجتماعات والتراشق بالسُّباب والتمترس خلف المغانم الحزبية.... تلك "المهزلة" المعبرة عن فقر سياسي وأخلاقي يستبد بكثير من نخبة تدبير الشأن المحلي في أكبر مدينة مغربية، مهزلة متصلة بخفوت الحس الوطني لدى ذلك النوع من "النخبة"، وتواريه خلف نهم التموقع الانتخابي الحزبوي...خفوت الحس الوطني ليس بمعنى انعدام الوطنية، إنما عدم المبالاة بتداعي وتأثير الفعل التنموي المحلي على فعالية وحماس التدخل الشعبي في إسناد المجهود المتواصل لحماية المكتسبات الوطنية المغربية في مواجهة محاولات قضم الوحدة الترابية الوطنية....لا يمكن هنا أن نتجنب السؤال المصوب باستمرار نحو هذه التخمة الحزبية المعطِلة للدورة السياسية الطبيعية والمنتجة...من بين العدد المفزع للأحزاب المسجلة قانونيا في التعددية الحزبية المغربية، أزيد من 20 منها زائدة عن الحاجة وتحدث ليس إلا ازدحاما مفتعلا ومعطلا للمرور في الشارع السياسي المغربي...لا تثمر فائدة لا في الداخل ولا في الخارج...وهي مجرد عبّارات للكائنات الانتخابية التي تستنزف فعالية ومصداقية المؤسسات المنتخبة.
ويكون على جلالة الملك أن يربط مباشرة في الخطاب الموجه إلى ممثلي الأمة، بين التحلل من المسؤولية في تدبير بعض المجالس المحلية من طرف نوع من النخب الحزبية، وبين اتكالية تلك النخب نفسها في تعاطيها مع تطورات القضية الوطنية، بل وتعليق تلك النخب للمسؤولية، في المبادرة وفي التصدي وفي التحدي، على الدولة وحكومتها ومؤسساتها... لم يكن الخطاب طفراويا، بل كان محذرا من أن مساعي الخصوم متواصلة ولا يعتريها كلل، وأن القضية لم تحسم بعد، ولعله في وارد التطورات أن نجد أنفسنا إزاء مناورات أشد من تلك التي اجتازها المغربي بنجاح (كان التدخل الملكي فيها الأقوى)... أتصور أن التذكير بروح التعبئة التي سادت المسيرة الخضراء لم يكن اعتباطيا... بالمسيرة الخضراء استرجعنا الصحراء المغربية... وبها نفسها انطلق المسلسل الديمقراطي، لأن الشعب المطلوب أن يحمي مكتسباته الوطنية، من حقه أن تُحمى حقوقه بالقواعد الديمقراطية...
الملك بخطابه حريص على دوره... السهر الاستراتيجي على الصحة الوطنية والديمقراطية والتنموية للوطن... وهو يحرض شعبه بمؤسسات دولته وأحزابه وجمعياته على اقتحام مستقبل المغرب بشحنات أفعل من ممكنات التنمية ومبادئ الديمقراطية وقيم الوطنية...دعوة ملكية مدوية لتعبئة قوية للمجتمع السياسي، و السرعة القصوى، حول الحاجة إلى تملك اجتماعي تنموي ووطني للمشروع الديمقراطي الذي سنه الدستور، ويفترض أن يسري في ألياف وأوردة هذا المغرب الآخر والجديد الذي هو قيد التشكل... ولا مناص من مواصلة تأسيسه وجعل طاقات التاريخ محركا له.