سنصدق ما قالته الحكاية بطريقتها الوردية: استفاق الشعب ذات صباح على وقع سماع خبر احتراق البوعزيزي ووفاته متأثرا بجروحه، فقامت القائمة وبدأ الطغاة في التساقط الواحد بعد الأخر. انتهى العالم العربي من بن علي وأتبعه بمبارك وألحق به القذافي، ثم مر إلى علي عبد الله صالح، والتقى البطل والبطلة وتزوجا وعاشا في ثبات ونبات وخلفا صبيانا وبنات. للأسف يصعب فعلا تصديق الأمر بهاته الطريقة لأنه بكل بساطة ليس هكذا، واليوم والتونسيون الذين يقال إنهم هم من أشعلوا شرارة الاحتجاجات في العالم العربي يعلنون نفورهم من السياسة وكفرهم بها في غالبيتهم إنما نستيقظ من الحلم الوردي الذي روجت له وسائل الإعلام على الكابوس الفعلي لشعوب لا تعرف كيف تمارس حريتها بكل بساطة لأنها لم تمتلك يوما هاته الحرية بين يديها. في تونس، ولننطلق منها لأنها كانت البدء، حلم الشعب بالديمقراطية فانتهى براشد الغنوشي وحزب النهضة متحكما في الحكومة قبل أن يفهم خطر هذا التحكم، وبالسلفيين يمضون اليوم بطوله في تعليق راياتهم السوداء على المباني الحكومية.
في مصر كانت هبة الحرية أكبر، بقدر البلد وحجمه، وارتفعت في الميدان الحناجر تحلم بالعيش والحرية والعدالة الاجتماعية، فانتهى الحلم بمشهد كابوسي حقا لمرسي وهو يقول للمصريين “موتوا معي في رابعة من أجل أن يحيا مشروع الإخوان المسلمين” في لبييا انتهى القذافي عن طريق الشباشب والأحذية قبل طلقة الرصاص الأخيرة، وقيل للجميع إن الليبيين الذين حرموا من الحرية لسنوات وعقود على يد الأحمق الأخرق هذا، عاشق النساء قسرا والمضحي بكل خيرات بلاده لنزواته الشخصية، سيتحولون إلى شعب آخر وبلد آخر. أشهرا طويلة بعد الوعد القطري ببناء الديمقراطية في ليبيا لا شيء تحقق، وشرطة البلد تجد صعوبة الكون كلها في سحب الأسلحة من أيدي الميليشيات التي سلحتها الدوحة في السابق لأن هاته الميليشيات مقتنعة أنها ستقتل بمجرد التخلص من سلاحها. من بقي من دول الربيع العربي؟ وهل تصح حقا هاته التسمية الكاذبة؟ قلناها منذ البدء وأكدت الأيام تحليلنا إذ لم ننجر للشعارات الكاذبة التي جعلت العديدين يكتبون تحليلات من وقع الأحلام الوردية وقصاصات الأنباء الأجنبية. قلنا إن الفرنسيين أو الأمريكان أو الإنجليز حين يأتون إلى بلداننا لكي يكتبوا عن الديمقراطية يفعلون ذلك من وحي سفريات استيهاماتهم.
نبدو لهم أناسا قادمين من القرون الأخرى على ظهور جمالنا، نسقيهم شايا في الدنان، ونقدم لهم الجواري الراقصات على وقع حكايا ألف ليلة وليلة. لذلك تأتي قراءاتهم للوضع لدينا باستمرار عاجزة عن فهم مايقع ومثقلة بهاته الصورة النمطية بل الكاريكاتورية التي يحتفظون بها عنا. الأصلح هو الاقتناع أن ما وقع كان تدبيرا بليل لمسار المنطقة ككل، وحين تظهر دول خليجية تحكم بمنطق القبيلة وهي ترغب في تلقين دول عريقة مثل مصر على سبيل النموذج فقط الدروس في الديمقراطية يمسك العاقل برأسه بين يديه ويقول “وابزاف عاوتاني”. الحكاية كلها والتي ابتدأت حلما ورديا مشروعا للجميع انتهت كابوسا فعليا يعيدنا إلى نقطة البدء ويمنعنا من التشبه بمن عاشوا الربيع الفعلي أي بدول المنظومة الشرقية في أوربا سابقا، والذين قادهم مثقفون ومتنورون من أجل الحرية ومن أجل النضال الديمقراطي ومن أجل الالتحاق بركب الدول المتحضرة. فمن يقود الثورات في العالم العربي اليوم؟ القرضاوي؟ أحمد منصور؟ خيرت الشاطر؟ الغنوشي ؟ الريسوني على استحياء وعدم قدرة بالمجاهرة؟ عيب حقا ومخجل أن يكون هؤلاء هم رموز الأمة القادرون على الدخول بها إلى العصر الحديث، ومريع أن يكون سقف الانتظار منحطا إلى هذا القدر حد إجبارنا على النوم على بطوننا من أجل المرور تحته لأنه متدن, نازل وساقط أكثر من اللازم هل نقولها مجددا ونغضب الحالمين الواهمين؟ نعم، فلا خيار: الحريية لا يمكنها أن تأتي إلى من هو مستعبد في عقله. والديمقراطية تحرم نفسها على من ليس ديمقراطيا في عمقه. وعندما نتابع نقاشاتنا مع من يعتبرون اليوم علامات وملامح الراغبين في التغيير نعرف أن في دواخل كل منا ديكتاتور صغير سيمنعنا حتى انتهاء كل الأيام, أو حتى انتباهنا لخطئنا من التخلص من الاستبداد الكبير. علينا أن نعود إلى البديهيات الأولى: لنقرأ كثيرا، ولنطالع كثيرا، ولنرب الأجيال الجديدة على تقدير العلم والعلماء لا تقديس الجهل والنصابين. لنقم للحرية قداسها الفعلي ولننتظرها حينها في المنعرج. أما ونحن نقدس الجهلة منا ونضع صورهم رموزا للقادم من عبثنا فلن نعيش ربيعا، ولن نعيش أي فصل من الفصول بشكل سوي. سنعيش الشذوذ السياسي والفكري والثقافي والحضاري إلى ما لانهاية، والكارثة هي أننا سنعيشه بكل اعتيادية ولن نتصوره أمرا سيئا على الإطلاق.