سعيد الكحل.
وأخيرا صمتت كل الألسن والأقلام التي تصاعد صداها ، غداة إعلان المغرب دعمه للتدخل العسكري بقيادة فرنسا لتحرير شمال مالي من سيطرة التنظيمات الإرهابية ومساعدة الحكومة على بسط سيادة الدولة على كل التراب الوطني . لحسن الحظ لم تأبه السلطات العليا في المغرب لتلك الأصوات الانهزامية أو المتواطئة مع الإرهابيين ، التي ظلت تحذر الحكومة من الغرق في رمال مالي وتعريض مصالح الوطن لخطر الإرهاب الذي سينتقم لقتلاه في تومبوكتو وكيدال وغاو وغيرها من أوكار الإرهاب وقواعده . كان قرارا سديدا أن يشارك المغرب في العمليات العسكرية التي خاضتها فرنسا والقوات الإفريقية تحت شعار "القط المتوحش" لعدة اعتبارات :
1ـ القضاء على الإرهاب الذي أقام "إمارة" في شمال مالي ستكون بؤرة جذب واستقطاب للعناصر المتطرفة من كل دول العالم . ومن شأن هذه "الإمارة" أن تهدد كيان كل الدول المجاورة التي تعاني الهشاشة والضعف المادي والعسكري . وضرب الإرهاب في مهده هو حماية وتحصين لتلك الدول ووقف زحفه نحو حدود المغرب الجنوبية والشرقية .
2ـ القضاء على نزعة الانفصال التي استولت على الحركة الأزوادية فخسرت التراب والوطن والتنظيم . إذ نجاح الانفصال في مالي سيقوي نزعاته في جنوب المغرب . لهذا فتحرير شمال مالي من سيطرة الإرهابيين هو إفشال لمشروع الانفصال برمته في المنطقة . بل سيمكن المغرب من اقتراح مشروع الحكم الذاتي على الماليين قطعا لدابر الانفصال والاسترزاق .
3ـ إفشال مخطط الجزائر الرامي لعزل المغرب عن محيطه الإقليمي وامتداداته الإفريقية جنوب الصحراء . فالجزائر سعت لتشكيل تكتلات إقليمية : عسكرية ، سياسية ودينية ، أقصت المغرب من العضوية فيها ، وعلى رأسها 'رابطة علماء وأئمة ودعاة منطقة الساحل' وتضم أئمة ومشايخ من (الجزائر ومالي والنيجر وموريتانيا ونيجيريا ) ، لجنة قيادة الأركان المشتركة المتواجدة بتمنراست و مجلس رؤساء أركان دول الميدان .
4ـ تشكل الدول الإفريقية عموما ، ودول منطقة الساحل والصحراء المجال الحيوي للمغرب والمنفذ إلى العمق الإفريقي . فالمغرب يدرك جيدا أنه بمثابة شجرة جذورها في إفريقيا وأغصانها في أوربا ، وأن كل تهديد بقطع الجذور أو تجفيف منابعها هو تهديد لحياة الشجرة/المغرب . وتقوية الروابط والعلاقات بين المغرب والدول الإفريقية هي ضمان الحياة والغذاء لجذور هذه الشجرة المغربية .
5ـ إن وقوف المغرب إلى جانب مالي هو رسالة إلى الدول الإفريقية وشعوبها مفادها أن المصالح الوطنية لا يمكن تحقيقها والدفاع عنها إلا بالعمل المشترك والتعاون البناء بين هذه الدول . وقد كان خطاب الملك في حفل تنصيب رئيس مالي واضحا في التأكيد على الوفاء "لتقاليده العريقة والمشهود بها في مجال التعاون مع الدول الشقيقة جنوب الصحراء"،وكذا الالتزام بأنه "سيتحمل ، بكل فعالية وعزم، نصيبه من هذه المسؤولية التاريخية."
6ـ تأمين الحزام الديني والروحي الواقي من التطرف ؛ ذلك أن الأمن الروحي للمغرب لا ينحصر داخل حدوده الجغرافية ، وإنما يمتد إلى دول الجوار . والتطرف الديني هو وباء ككل الأوبئة التي تتطلب مكافحتها التصدي لها خارج الحدود الوطنية . والمغرب يعي مسئوليته الدينية والروحية تجاه مالي التي يجمعها بالمغرب " إسلام متشبع بنفس القيم المبنية على الوسطية والاعتدال، وبنفس تعاليم التسامح والانفتاح على الأخر" . لهذا قرر الملك مشاركة المغرب في " ترميم مخلفات التخريب المادي، ومعالجة الجروح المعنوية" عبر "إعادة بناء الأضرحة وإصلاح وترميم المخطوطات وحفظها وإنعاش الحياة الاجتماعية والثقافية"، فضلا عن تكوين 500 إمام مالي . ولعل تعبير أحد شيوخ الصوفية في مالي بأن فاس تمثل قبلتهم الثالثة بعد البيت الحرام وبيت المقدس يعكس عمق الروابط الروحية بين المغرب ومالي.
يحق للمغرب ، إذن ، أن يحتفل مع مالي وأصدقائها بالنصر العسكري الذي دحر فلول الإرهاب ، فكانت مالي نموذجا في هذه الحرب التي لم تترك للإرهابيين فرصة للمقاومة أو لزرع الأوهام بأن الملائكة تقاتل إلى جانبهم ، ولا حتى المجال لنسج "المعجزات" على شاكلة ما فعلوه زمن "الجهاد الأفغاني" . وسيكون على الحكومة أن تسرّع تنفيذ اتفاقيات الشراكة بين المغرب والدول الإفريقية بهدف الرفع من مستوى التعاون وفتح آفاقه الاقتصادية والمالية والسياسية والثقافية والأمنية .