عبد الرحيم المنار اسليمي
هل أصيب جنرالات الجزائر بالعمى وهم يستقبلون عائلة القدافي؟ هل فعلا أن الأمر لا يتجاوز "حالة إنسانية" كما وصفتها بيانات الخارجية الجزائرية؟ لكن، كيف يمكن تفسير الطريقة المخابراتية التي نظمها جنرالات الجزائر من داخل الأراضي الليبية لترحيل عائلة القدافي ، والتي يبدو أنها كانت محكمة لدرجة إجراء تمارين لتمويه الثوار قبل تنفيذ العملية ؟
فالثابت، أن العملية ليست صدفة أو أنها إنسانية كما تقول الخارجية الجزائرية، وهو موقف لم تقدر عليه دول كبرى مثل الصين وروسيا المعروفة بتأييدها لنظام القدافي ، فجنرالات الجزائر لم يكن لهم موقف سياسي من الثورة الليبية فقط ، وإنما مواقف عسكرية مساندة في الميدان كشفت عنها العديد من التقارير الأوروبية ، وان كانت حكومة الجزائر قد نفتها في إحدى المراحل واعتبرت ذلك مجرد "اتهامات " صادرة عن المغرب .
اليوم ،وبعد أن تأكد بوضوح تأييد جنرالات الجزائر لنظام القدافي، وتسويقهم للخوف من الثورة الليبية ،واستعدادهم غير المعلن لاحتضان ما تبقى من نظام القدافي وأتباعه ، فان الحدث لا يمكن أن يكون عابرا ويحتاج إلى تفسيرات لان له مخاطره الإستراتيجية في المستقبل على المغرب وعلى قضية الصحراء،وهو حدث يحتاج إلى تفسير لتحديد مخاطره الممكنة .
هناك من يعتبر في تفسير أول لموقف جنرالات الجزائر ، أن اختيار موقف مساندة القدافي، هو مجرد رد فعل على موقف المغرب المساند لثوار ليبيا ، لكن هذه الفرضية غير صحيحة، لان العلاقة بين جنرالات الجزائر ونظام القدافي هي علاقات تاريخية،ولا يمكن أن يغامر جنرالات الجزائر بالانحياز لنظام القدافي بناء على موقف مغربي لم يتبلور بوضوح إلا بعد وصول الثوار إلى طرابلس .
التفسير الثاني، وهو مجموعة حجج مزعومة تقدمها بيانات وتصريحات الحكومة الجزائرية منها:
أولا، أن الموقف ناتج عن مبادئ الثورة الجزائرية التي تحارب الامبريالية، و موقف فرنسا منها على الخصوص في الثورة الليبية ، لكن هذه الحجة غير صحيحة لان هناك أزيد من 430 شركة فرنسية داخل الجزائر تدير الاقتصاد والتجارة ،وان المنظومة الاقتصادية الجزائرية لم تعد لها أية علاقة بالتوجه الاشتراكي ،بل باتت سوقا مفتوحة أمام كل الشركات الغربية بتحالف ومراقبة عسكرية .
الحجة الثانية التي تقدمها الحكومة الجزائرية العسكرية ،تستند على مقولة التخوف من أن الثورة الليبية مخترقة من طرف تنظيم القاعدة في بلد المغرب الإسلامي ،وهي حجة غير صحيحة ،لكونها حجة استعملت في تونس ومصر واليمن وتستعمل في اليوم سوريا رغم أن الربيع العربي أنهى مع اضعف إيديولوجية القاعدة، والدليل على ذلك المشاكل التنظيمية للقاعدة الأم نفسها وبداية تساقط رؤوسها بسرعة غريبة أخرهم اعتقال القيادي يونس الموريتاني في باكستان.
أضف إلى ذلك ،إن فكرة ربط تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي بالجماعة الإسلامية المقاتلة في ليبيا ،هو ربط غير صحيح اعتمده المحللون لمدة طويلة لما أقاموا جسور إيديولوجية وتنظيمية بين القاعدة والجماعة الإسلامية الليبية المقاتلة ، واليوم يتم نفي هذه الفرضية ،فالعلاقة بين القاعدة والجماعة الإسلامية الليبية المقاتلة إيديولوجيا وميدانيا تبدو ضعيفة تلتقي في بعض الأهداف ،وهو ما يستشف من خلال الشهادات التي قدمها "عبد الحكيم بلحاج" القائد العسكري للثورة الليبية او "عبد الحكيم الحصادي" احد أعضاء الجماعة الإسلامية الليبية المقاتلة السابقين ،بل وقبول الولايات المتحدة الأمريكية بقيادة العمليات العسكرية والإعلامية المضادة للقدافي من طرف شخصيات تنتمي إلى الجماعة الإسلامية الليبية المقاتلة .
الحجة الثالثة، وتتمثل في تخوف جنرالات الجزائر من تحالف نظام القدافي مع تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي ،وهي حجة مردودة لكون جنرالات الجزائر يجيدون لعبة القاعدة أكثر من غيرهم ، فالصراع الذي يدور في منطقة الساحل ،يوظف فيه جنرالات الجزائر ورقة شبكة تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي ،والأمر هنا لا يتعلق بشبكة "عبد المالك دوردكال " وإنما شبكة "مختار بلمختار " و"ابوزيد"، للضغط على فرنسا واسبانيا لانتزاع مواقف من قضايا المنطقة منها قضية الصحراء ،وهذا ما يشرح إصرار الجزائر على إبعاد المغرب عن الاجتماعات الأمنية لدول الساحل ،فسلوك المؤسسة العسكرية الجزائرية ولعبها بكل الأوراق الممكنة بما فيها ورقة تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي ،يدفع الجزائر منذ سنوات إلى التحول إلى "باكستان شمال إفريقيا" .
لكن كيف يفسر هذا الإصرار من طرف جنرالات الجزائر على التحالف مع القدافي في لحظة تساقط نظامه ؟ رغم أن هذا الأخير لا يعترف بجزء كبير من الحدود الليبية الجزائرية،إضافة إلى دفاعه عن فكرة إقامة دولة لصالح الطوارق في شمال النيجر ( مشروع دولة طورقستان)، وهو ما يمكن أن يسعى القدافي اليوم إلى تأسيسه في حالة عدم القضاء عليه ، الأمر الذي يبدو انه مستبعد لحد الآن قبل أن تتضح مصالح الدول الغربية في ليبيا ما بعد الثورة ،فالقضاء على القدافي وتسليم عائلته هي ورقة مطروحة للمفاوضات والمقايضات السياسية حول المصالح، تستعملها القوى الغربية وجنرالات الجزائر على السواء.
وبلغة الحسابات الإستراتيجية المبنية على المكاسب، يبدو أن المغرب استفاد من موقف جنرالات الجزائر مما حدث في ليبيا ،فأسطورة مساندة حق الشعوب في تقرير مصيرها التي تستعملها الجزائر ضد المغرب أصبحت ذات حجية ضعيفة ،ولم يعد من الممكن الاعتماد عليها من طرف الدبلوماسية الجزائرية في المنتظمات الدولية لتبرير موفقها في قضية الصحراء ،أضف إلى ذلك أن ما بنته الجزائر طيلة السنوات الماضية وروجته حول صورة البوليساريو قامت بمحوه لما حولته إلى جزء من كتائب القدافي ،فالصورة الرائجة الآن حول البوليساريو هو انه مجرد مجموعة أجراء مسلحين قابلين للاستئجار من طرف أي نظام في العالم لما يحس انه يتساقط نتيجة ثورة داخلية ضده .
لكن ،بالمقابل ،وبلغة الحسابات الإستراتيجية المبنية على المخاطر ،فان ما يجري في ليبيا ولعبة جنرالات الجزائر مع بقايا نظام القدافي له تأثير قادم على المغرب،فالقدافي كان ممولا رئيسيا لجبهة البوليساريو عن طريق جنرالات الجزائر الذين استفادوا سنوات طويلة إلى جانب قيادات البوليساريو من هذا التمويل ،الآن بعض انهيار نظام القدافي فان الجزائر ستصبح الممول الوحيد للبوليساريو إلى جانب المساعدات الاجتماعية والاقتصادية لبعض المنظمات غير الحكومية ،فهل ستكون لجنرالات الجزائر القدرة على الاستمرار في تمويل البوليساريو في المستقبل ؟ ان هذا السؤال يدفعنا الى القول ان جنرالات الجزائر فقدوا مع انهيار نظام القدافي احد الأوراق الداعمة لموقفهم من قضية الصحراء في مواجهة المغرب ،فجنرالات الجزائر يلعبون منذ 1975 على ورقة قضية الصحراء وأضيفت إليها في بداية التسعينيات ورقة الحركات الإسلامية المتطرفة ،مما يفتح المجال إلى تحديد مجموعة مخاطر جيوسياسية مقبلة في محيط المغرب وعلى حدوده :
النوع الأول من المخاطر، جنرالات الجزائر سيعودون ويساومون المجلس الانتقالي حول قضية الصحراء ،فاحتضان عائلة القدافي وبعض قيادات النظام الليبي السابق ستستعمل كورقة للضغط على المجلس الانتقالي لانتزاع مواقف من شانها خدمة جنرالات الجزائر في قضية الصحراء،والمسالة تتوقف هنا على سرعة تحرك الدبلوماسية المغربية وعدم ارتكابها للأخطاء في تقدير مايجري داخل المجلس الانتقالي وتوقعات مواقفه المستقبلية .
النوع الثاني من المخاطر، مع اشتعال الأوضاع في ليبيا وقبل حسم المعركة لصالح الثوار،لوحظ انه هناك بداية دفع الجماعات الإسلامية المتطرفة الموجودة فوق الأراضي الجزائرية نحو الحدود الشرقية مع المغرب ،فعمليات تسرب الإسلاميين على الحدود بحجج البحث عن التموين الغذائي او جمع الزكاة ودخولهم في بعض المواجهات مع قوات الحدود المغربية خلال الشهور الماضية وعملية " أكاديمية شرشال" في الجزائر، تبين ان جنرالات الجزائر يدفعون الجماعات المتطرفة تدريجيا نحو الحدود الشرقية للمغرب وهو تحول له دلالاته الإستراتيجية بانتقال العمليات بسرعة من شرق الجزائر إلى غربها .
النوع الثالث من المخاطر ، وهو عدم احتضان قيادات البوليساريو لشباب المخيمات الذي كان يدرس في جامعات القدافي وحارب إلى جانب نظامه وعدم سماح الجزائر لهم بالالتحاق بالجامعات الجزائرية، الشيء الذي يفتح إمكانية دفعهم إلى التسرب عبر موريتانيا وتقديمهم كعائدين إلى المغرب ضمن مخطط عسكري مشترك بين قيادات البوليساريو وجنرالات الجزائر .
النوع الرابع من المخاطر ،وهو أن يدفع جنرالات الجزائر قيادات البوليساريو الى قبول مقترح الحكم الذاتي، في وقت لم يعد هناك مايسمى بالبوليساريو الذي تحول أفراده إما إلى أجراء حرب او طبقة تجارية تمارس كل شيء في منطقة الساحل الإفريقي ،هذا التحول الذي يطرح السؤال التالي على السلطات المغربية: هل مازال من الممكن الاستمرار في مشروع و مفاوضات الحكم الذاتي مع البوليساريو على شاكلة حالة ما قبل سقوط نظام القدافي و اتضاح تورط جنرالات الجزائر وعناصر البوليساريو في حمل السلاح ضد الشعب الليبي ؟ فمع من يتفاوض المغرب مستقبلا ؟
النوع الخامس من المخاطر ، وهو الانتباه إلى السياسة الأمريكية التي تعيد بناء توجهاتها الإستراتيجية في منطقة المغرب العربي ،فتدفق وثائق ويكيليكس،بعض استيلاء الثوار على ليبيا، بمعلومات حول المغرب بخصوص ملف قضية الصحراء وملف الإسلاميين،إضافة إلى تقرير وزارة الخارجية الأمريكية حول الإرهاب في العالم ،الذي يقول أن الجماعة الليبية المقاتلة كان لها دور مهم في التخطيط والدعم المادي للخلية الانتحارية التي نفذت هجوم 16 ماي 2003 بالدار البيضاء ، الأمر الذي يتضح معه أننا أمام معلومات غير عادية من حيث توقيت تسريبها أو الإعلان عنها ،في الوقت الذي وافقت فيه الولايات المتحدة نفسها على قيادة الثورة الليبية عسكريا وإعلاميا من طرف مكونات شخصيات تنتمي الى الجماعة الإسلامية الليبية المقاتلة التي يتهمها تقرير الخارجية اليوم بعد مرور ازيد من ثماني سنوات على انفجارات الدار البيضاء ، هي معلومات تؤشر على أن الولايات المتحدة الأمريكية تعيد تدريجيا بناء موقفها في المنطقة باستعمال آليات الضغط على المجلس الانتقالي من خلال توظيف ورقة الإسلاميين ورسم السقف الممكن للعلاقات في منطقة المغرب العربي، ومن ضمنها علاقة المجلس الانتقالي بالمغرب ،في هذه المرحلة التي لازال فيها شكل السلطة غير واضح في ليبيا .
هذه العناصر ،تبين أن المغرب حقق لحد الآن بعض المكاسب من الأوضاع في ليبيا ومن لعبة جنرالات الجزائر فيها ، لكن تداعيات الثورة الليبية لازالت لم تتوقف و ستستعمل كورقة في المغرب العربي، ومغامرات جنرالات الجزائر واردة في كل الاتجاهات ،بما فيها قضية الصحراء واستعمالات البوليساريو المتعددة، مع استمرار إحساسهم بسخونة الربيع العربي المستمرة .