ويقول الدكتور سعيد أبو الفتوح، الأستاذ بجامعة الأزهر، ولد أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الأندلسي الشهير بابن حزم الظاهري في شهر رمضان سنة 384 هـ / 994م، بمدينة الزهراء إحدى ضواحي قرطبة عاصمة الأندلس، ونشأ في بيت عز وثراء وعلم ووزارة، فأبوه أحمد بن حزم كان أحد العلماء الكبار المشهود لهم بالخير وسعة العلم وحسن الخلق، ومن وزراء المنصور بن أبي عامر حاكم الأندلس القوي، وتعهده أبوه بالرعاية والتعليم ليسير على درب الوزارة والرياسة مثله، وحرص على أن يبدأ طريقه بحفظ القرآن وتلقى علوم اللغة العربية، ورزق ذكاء مفرطا وحافظة قوية، وعكف على دراسة الفقه والحديث والتفسير والعلوم الشرعية، فارتاد حلقات العلم بالمسجد الكبير بقرطبة وصاحب أبا الحسن بن علي الفاسي، وأخذ عن يحيى بن مسعود بن وجه الجنة، ولازم قاسم بن أصبغ، وغيرهم من كبار علماء عصره، ولما أصبحت قرطبة مسرحاً للحرب بين الأمراء الأمويين في صراعهم الداخلي على السلطة رحل إلى «مرية» وواصل الأخذ عن أعلامها، وتفرغ لدراسة الفقه، وكان قد درسه على مذهب الشافعي.
دراسته
انكب ابن حزم على العلوم الدينية على مذهب الإمام مالك، وكان مذهب أهل الأندلس في ذلك الوقت، حتى تضلع ووصل إلى مرحلة الاجتهاد، وتأثر بالمذهب الذي وضعه الإمام داود بن علي الأصفهاني بالعراق في القرن الثالث الهجري، فعمقه وجدد الأخذ بالظاهر، وأجمع من ترجم للإمام ابن حزم على صلاحه وزهده وورعه ووفائه وخشيته لله تعالى واعتداده بنفسه وعلمه، وكان صلباً صارماً غير هياب، وطارت شهرته في الأندلس كلها، وذاع صيته في بلاد المغرب والمشرق، فقد وصفه الأمير أبو نصر بن ماكولا بأنه: «كان فاضلاً في الفقه، حافظاً في الحديث، مصنفاً فيه، وله اختيار في الفقه على طريقة الحديث»، وقال عنه الحافظ الذهبي: «بلغ ابن حزم رتبة الاجتهاد وشهد له بذلك عدة أئمة، وكان ينهض بعلوم جمة، وقد زهد في الرئاسة»، وقضى الإمام ابن حزم حياته كلها في الدراسة والتدريس والتأليف، ونهض بعلوم جمة وفنون كثيرة، واتفق أهل العلم على كثرة تآليفه وتفرده، وبلغت مؤلفاته نحو أربعمئة مجلد، من أهمها كتاب «المحلى بالآثار»، و»الإيصال في فهم الخصال»، و»الجامع في صحيح الحديث» و»اختلاف الفقهاء» و»مراتب الإجماع».
محن ونكبات
وألمت بالإمام ابن حزم العديد من المحن والنكبات القاسية التي عمقت من أحزانه، وتركت أثرها السيئ عليه وبانت جلية في مصنفاته، فقد عاش أحداث الصراع المرير على الحكم الذي اندلع في قرطبة وتسبب في فتن وأهوال عانتها الأندلس لفترة طويلة، وقد عزل والده أحمد بن سعيد الذي كان من كبار وزراء المنصور بن أبي عامر، وابنه المظفر، وأخيه عبد الرحمن شنجول، من منصبه في عهد محمد المهدي، واصطدم بالقائد الصقلبي واضح محسوب فطارده وسجنه وصادر أمواله، ومات أبوه كمداً في سنة 402 هـ، فارتحل ابن حزم إلى مرية، ومكث في كنف العامريين، وهم موالي الحاجب المنصور من أتباع الخلافة الأموية، ولما احتدم صراع الأمراء الأمويين على السلطة سقطوا جميعاً، فأل الأمر في قرطبة إلى آل حمود، وهم علويون يناصبون الأمويين العداء الشديد، واستولوا على قرطبة، وقام والي «مرية» بالإيقاع به مع بعض أصحابه، واتهمه بالتآمر ليعيدوا ملك بني أمية، واعتقله فترة ثم أمر بإبعاده، فخرج إلى بلنسية عندما ظهر الأمير الصالح المرتضى عبد الرحمن بن محمد، حفيد عبد الرحمن الناصر، ودعا لنفسه بالخلافة، وبادر ابن حزم بتأييد المرتضى، لتوسمه بقدرته على إعادة توحيد الأندلس ونهضتها، وأخذ يدعو له الناس حتى اجتمع للمرتضى جيش يصلح للزحف، فقرر أن يزحف إلى غرناطة فيستولي عليها، وسار ابن حزم مع الجيش تحت راية المرتضى، ولكن الجيش لم يصل إلى غرناطة. فقد اغتيل المرتضى وهزم جيشه، ووقع ابن حزم في الأسر، وبعد حين أطلق من الأسر، فاختار أن يعود إلى قرطبة ليتفرغ للعلم بعد أن غاب عنها نحو ستة أعوام، وصرف همه إلى العلم، فتصدى لمظاهر الجمود الفكري والفقهي، وشيوع التقليد الأعمى.
مجد الإسلام
لكن أهل قرطبة لم يهدأوا، فثاروا على الخليفة العلوي واختاروا عبد الرحمن بن هشام من بني أمية ليولوه الخلافة، فأنضم إليهم، وكله شوق إلى بناء الأندلس من جديد واستعادة مجد الإسلام، ولم يكد يتولى حتى عين ابن حزم وزيرا له، ولكن الخليفة الجديد لم يكن يملك من مواهب الحكم والسياسة والدين شيئاً، وكان طائشاً استسلم لأهل الدسائس والأهواء، فلم يكد يستقر على عرش قرطبة، حتى نكل بأهل المشورة والرأي والحكمة في الأندلس، وألقى بعضهم في غيابات السجون، وولى بدلاً منهم عدداً من الفاسدين، وثارت قرطبة من جديد وأخرجت قادتها من السجن عنوة، وزحف الثائرون على قصر الخليفة فانتزعوه منه وقتلوه، وداست أقدام الثائرين ابن حزم وزير الخليفة المخلوع، واتهموه بأنه سكت على المظالم والفساد، فألقوا به في السجن، ولما فحصوا أعماله وجدوه بريئاً فأخرجوه، وكان قد عزم على الانصراف عن السياسة، وأن يهب عمره كله للعلم والكتابة، غير أن الأحداث السياسية عادت وفرضت نفسها عليه، عندما ثار أهل قرطبة من جديد، واختاروا هشام المعتد بالله بن محمد خليفة، فاختار ابن حزم وزيراً. ولكن الخليفة فشل في إدارة الدولة وتدهورت الأمور وتمزقت الدولة، فثارت قرطبة عليه، وأسقطته وأسقطت معه الدولة الأموية كلها.
نهاية ابن حزم
بعد أن سقطت الدولة الأموية سيطر ملوك الطوائف، وقسموا إمارات الأندلس فيما بينهم، واعتزل ابن حزم السياسة، وانكب على التأليف والعلم واعتبره جهاداً لإصلاح أمور الأمة، وطاف بالأندلس، يجمع من حوله طلاب العلم فيلقي عليهم الدروس ويناظرهم، وحمل على ملوك الطوائف بعنف ينتقد بشدة استهتارهم بالدين والعقيدة فكرهوه وحرصوا على إبعاده عن أراضيهم، ونفيه من مكان لآخر، واستغلوا التعصب المذهبي، فحرضوا عليه الجهلة والعوام، وآذوه كثيراً وأحرقوا كتبه بمحضر عام من الناس في إشبيلية وقرطبة، ومنعوا الطلبة من الجلوس إليه، فقضى الإمام آخر عشرين سنة في حياته منفياً مشرداً، حتى مات - رحمه الله - في سنة 456 هـ - 1063م.