كم كان عدد من أمضوا ليلة الجمعة السبت متسمرين أمام شاشات تلفزيونهم يرقبون تطورات الوضع المصري المأساوي، ويعدون القتلى حسب الجهات التي تروي حكاياتهم من الجزيرة القطرية التي كانت تضيف كل ربع ساعة عشرين قتيلا جديدا إلى القنوات المصرية التي كانت تبث مسلسلاتها وتمر عمدا دون الانتباه لهذا الدم المصري الرخيص؟
كانوا كثرا بكل تأكيد، التقطتهم هاته الفرجة الحزينة والتقطوها وجلسوا قبالتها ينتظرون لها نهاية لن تأتي أبدا ولسان حالهم طرح نفس السؤال: هل تستحق السياسة كل هذا الدم وكل هذا الخراب وكل هذا الدمار؟ هل تستحق السياسة ومناصبها وتولي مرسي أو تولي السيسي أو عودة مبارك حتى تسيل دماء المصريين أنهارا .وأن يفقد الشعب الطيب المغلوب على أمره قدرة على التمييز.لكن أن يفقد المثقف والواعي أي قدرة على التمييز، وينخرط في هاته الحمى الجاهلة والقاتلة التي تضعه بين فكي الجيش والإرهابيين؟
ثم هل مصر وحيدة فيما يقع لها اليوم من مصاب؟
أبدا، ولا أحد يعتقد ذلك أو يتصوره، بل الكل يعرف أن التأثر سيحدث إن لم يكن بشكل كبير فبشكل أصغر، وإن لم يكن اليوم فغدا. المهم أنه سيحدث وسيجرنا جميعا إلى هاته الدوامة المحزنة والمخجلة التي انتهت منها دول العالم المتحضرة والتي لم نصلها نحن إلا اليوم.
هل يعقل أن لا يكون لنا أي خيار آخر اليوم إلا الارتماء في أحضان الجيوش من أجل حمايتنا من الإرهابيين ومهربي الدين؟
للأسف لاخيار ولا بديل. وحتى الشعارات التي قد نرفعها فيما بيننا على سبيل الترف الفكري، والبحث عن منافذ أخرى للأمل تظل شعارات لا تسمن ولا تغني من جوع. الطبقة المفترض فيها أنها مثقفة أو واعية أو تفكر بشكل علمي لأمتها هي طبقة قليلة للغاية لا تأثير لها وكلامها لا يمر، والأغلبية تفضل سماع صوت واحد من إثنين: إما صوت القمع والاستبداد وهو يخرسها ويرعبها ويمنعها من التفكير الحر، أو صوت الدين المتسربل في السياسة، الغارق في التخلف، وغير القادر على تخليص نفسه من الفتاوى المتطرف التي أحالته جحيما بعد أن أرسله الله رحمة للعالمين.
وماذا بعد؟
لا شيء. سنقترح على العالم المتحضر لسنوات وعقود وربما قرون مقبلة هاته الفرجة الحزينة كل مرة. سينظر إلينا الآخرون على اعتبار أننا دم رخيص من السهل أن يهدر ومن العيب أن يقدر، وسنلاحظ باستمرار الفوارق الشاسعة بين أن يموت بضعة إسبان في حادثة سير لقطار، وأن تقوم القائمة ولا تقعد، وأن يعلن الحداد، وأن يبكي العالم كله تأُثرا، وبين أن يموت مئات المصريين في ليلة واحدة، وأن يجد الكل الأمر عاديا وطبيعيا ولا يتطلب أي تجند من أي نوع خاص.
ذلك المشهد المريع لأبناء مصر _كيفما كانت انتماءاتهم الفكرية أو الدينية_ وهم يحملون مثل البهائم إلى المستشفى الميداني في تلك الليلة قرب رابعة العدوية، مشهد لن ينسى أبدا، وهو يدل على أننا فعلا بقينا آخر البشرية وذيل الإنسانية وكل الختام، وأننا فقدنا ما يربطنا بالعالم المتحضر من علاقات لأن بشرية اليوم لم تعد تصفي خلافاتها بالنحر أو القتل أو رص الجثث الواحدة قرب الأخرى أمام عدسات الكاميرا وترديد عبارة “حسبنا الله ونعم الوكيل” والبكاء والنواح والعويل والسلام.
لا، البشرية (ديال بالصح، ماشي حنا) اكتشفت طرقا أخرى أكثر حضارة وأكثر تحضرا لحل خلافاتها السياسية، واكتشفت ما يمنع تجار الدين من أن يلموا الجموع تحت لوائهم بمبرر الدخول إلى الجنة فور التصويت على الإسلاميين، واكتشفت أيضا كيفية إقناع العسكر بالبقاء في ثكناتهم حماة للوطن ولحدوده يوم يلزم الأمر، واكتشفت كيفية التداول على السلطة وفق برامج سياسية لا وفق الشعوذة الدينية التي يقترحها الكاذبون.
لهذا بقينا خارج الصف، وسنظل هناك. غدا أو بعد غد أو في زمن غير مرئي بكل تأكيد، وبعد أن ننتهي من كل هذا الهراء القاتل الذي سيبيد أغلبيتنا الجاهلة، ستأتي أجيال أخرى من امتدادنا أو من صلب آخر غيرنا، المهم أنها ستأتي إلى هاته الأوطان وستعرف كيف تتعامل بها ومعها وفق ما ينص عليه الوقت الذي تحيا فيه.
في انتظار ذلك لا شيء بقي لنا إلا الفرجة الحزينة على ما نفعله بأنفسنا بكل غباء يستحق فعلا الكثير من الإعجاب، لأنه غباء لم تصله أمة قبلنا، ولا يعتقد أحد أن أمة أخرى قد تصله في يوم من الأيام.
على الأقل استطعنا أن نبهر العالم كله بغبائنا إن لم نستطع أن نبهره بشيء مفيد. دمنا للأمر ودام لنا إلى أن نجد مخرجا…