|
|
|
|
|
أضيف في 16 يوليوز 2013 الساعة 09 : 01
مولاي التهامي بهطاط
حين أزور القرية التي ولدت فيها بسفوح الأطلس المتوسط الشرقي (رشيدة بإقليم جرسيف)، أحمد الله لأن كل بيت من بيوتها مرتبط بالطاقة الكهربائية، والماء متوفر ومتدفق ومعالج طبيعيا وفي متناول الجميع بالمجان..والمدرسة مفتوحة في وجه الذكور والإناث وأبعد منزل في القرية لا يفصله عنها سوى عشر دقائق سيرا على الأقدام، والمستوصف يؤدي دوره رغم قلة الموارد والإمكانيات..ومتاجر القرية مليئة بالبضائع من "دانون" والحليب المبستر إلى المياه المعدنية إلى قنينات البوطاغاز، بل يستحيل ألا تعثر على شيء تطلبه رغم أن المنطقة ليست سياحية ونادرا ما يضل سائح طريقه فيعرج على القرية التي أغلب زوارها من المنحدرين منها.. ورغم أنها لا تقع على طريق رئيسي أو ثانوي، ولا هي تتوفر على إنتاج فلاحي أو صناعي..كما أن اللحوم كذلك متوفرة، بل إن جزاري القرية يعجزون أحيانا عن مجاراة الطلب، والخضر والفواكه وكل ما تشتهيه الأنفس متوفرة أيضا طول السنة..
ولا يوجد بيت في القرية ليس فيه هاتف نقال على الأقل، بل إن مراهقي القرية يتواصلون مع العالم الخارجي عبر أحدث وسائل الاتصال بما أن هواتفهم النقالة مجهزة بآخر تقنيات الأنترنيت، وأكثر من ذلك فإن الحاسوب ليس كائنا غريبا بالنسبة إليهم، بما أن كثيرا منهم يحفظون تقنياته عن ظهر قلب.. وهناك أيضا خمور ومخدرات وسرقات وجرائم وانحراف..
وحين أزور مدينة تازة التي ترعرعت فيها، أحمد الله أيضا، لأن أسواقها عامرة بكل الخيرات وفي جميع الأوقات، ويستحيل أن تبحث عن سلعة ولا تجدها، اللهم في لحظات الشح العام، كما أن الأسعار تخضع لمنطق العرض والطلب ككل أسواق الدنيا.. بل لقد فاجأني بعض الفلاحين بإحدى الجماعات القروية حين أكدوا عجزهم عن إيجاد مصرف لزكاة الحبوب قبل سنتين، لأن سكان الدواوير لا يوجد بينهم من ينطبق عليه وصف "الفقير" أو "المسكين"..فالجميع "مدور الحركة"..
والمهم أن الخبز متوفر والخضر والفواكه واللحوم بأنواعها، والكل في نهاية المطاف يجد ما يملأ به معدته..كما أن الأمن مستتب بشكل عام، رغم ما يسجل هنا وهناك من جرائم واعتداءات لا تخلو منها حتى مكة المكرمة في أشهر الحج..
والمدارس متوفرة والمستشفيات والمصحات والعيادات الخاصة والجامعة والملاعب الرياضية..مع أن الأمر يتعلق بجزء من المغرب المنسي، وبإقليم دفع ثمن استعصائه على الاحتلال الفرنسي فصنف ضمن المغرب غير النافع، كما استعصى تطويعه على حكومات الاستقلال فاستمر نفيه من مخططات التنمية، وازداد وضعه سوءا بعد المحاولة الانقلابية الأولى ليس لأنه كان يحتضن مدرسة هرممو التي انطلق منها الانقلابيون، بل لأن المذبوح وآل عبابو يحملون جنسيته، فكان عليه تحمل ما تحملته "تكريت" بسبب انتساب صدام حسين إليها..وهنا أيضا هناك خمور ومخدرات وجرائم قتل وسرقة ودعارة واغتصاب.. وحين أكون في العاصمة الرباط، أحمد الله أضعافا مضاعفة، لأن نعمه أكثر من أن تحصى أو تعد..
ففي أسواق هذه المدينة من الخيرات ما يجعل حتى أفراد الجالية المغربية المقيمين في الخارج يقفون مبهورين..أمام الجودة والوفرة، بل حتى بعض الوافدين الأجانب يفتحون أفواههم وهم يرون الكم الهائل من المعروضات، ومن مختلف المستويات..
من الدوارة والكرعين إلى الستيك والبيفتيك، ومن القرع واللفت إلى الشومبينيون ولي شو دو بروكسيل، ومن الهندية والدلاح إلى ليزانون ولافوكا..
والأمن مستتب أيضا رغم كل ما يقال ويسجل، بل إنني كثيرا ما أتجول في العديد من الأحياء الشعبية وفي أوقات مختلفة من الليل والنهار، ونادرا جدا ما شاهدت حوادث اعتداء كان بالإمكان تفاديها بقليل من الحذر، لكن هل نحلم بمدينة مثالية لا مكان فيها للجريمة والمنحرفين؟
وهنا أيضا المستشفيات والمصحات والمدارس والجامعات والمعاهد العليا متوفرة ومفتوحة للجميع، كل حسب طاقته.. بل لقد اكتشفت وأنا أجمع عناصر هذا المقال أنني صليت في أكثر من 44 مسجدا من مساجد العاصمة، وفي كل مسجد دخلته لم أكن أتحقق من مذهب الإمام ولا من طائفته، بما أن الجميع هنا يعمل وفق "عقد الأشعري وفقه مالك وطريقة الجنيد السالك.." وهذه وحدها نعمة لا تفوقها نعمة..وهناك أيضا خمور ومخدرات وقتل واغتصاب وسرقة ورشوة وفساد إداري ونهب ممنهج للمال العام..
صحيح أن الصورة ليست وردية على إطلاقها، لكن ديننا يعلمنا أنه في مسائل الدنيا ينبغي أن ننظر إلى من هم أدنى منا.. وفي المسائل الآخرة ينبغي أن نتطلع لمن هم فوقنا..
فحين يتوفر سكان قرية منسية في النجود العليا على هواتف خليوية من الجيل الثالث تمكنهم من التواصل عبر الفيسبوك وتويتر، بينما جيرانهم الجزائريون البتروليون مازالت وسائل إعلامهم تقوم بالدعاية لصبيب 512 كيلوبايت الذي انقرض من المغرب أو كاد، أليس واجبا علينا أن نحمد الله؟
وحين تكون المدينة متوسطة يسكنها في الغالب موظفون بسطاء وعسكريون متقاعدون وفلاحون صغار وتجار وحرفيون متوسطون، ومع ذلك تمتلئ أسواقها بالمواد الاستهلاكية في رمضان وغيره من الشهور، سواء منها المنتجة محليا أو المستوردة أو حتى المهربة.. بينما دولة مثل ليبيا تعدادها محدود ومواردها كبيرة، ومع ذلك أكل أهلها بعضهم بعضاً وسواء قبل الثورة أو بعدها ومازال الفقر والتخلف حاضرا.. أليس واجبا علينا أن نحمد الله؟
وحين نرى أسواق العاصمة وما فيها بضائع، بل حين نرى حجم ما يرمى من خضر وفواكه نصف متعفنة في محيط الأسواق الشعبية، وحجم "مرجوعات" الخبز التي يشتريها تجار الخبز "الكارم" في الوقت الذي أدى فشل حكومات ما بعد "الثورة" في مصر بنيلها وحقولها وتاريخها الفلاحي في توفير "الرغيف" الحافي إلى ما نشاهده اليوم من دماء.. أليس واجبا علينا أن نحمد الله؟
ويمكن أن أضيف أن حرية التعبير مكفولة في المغرب بشكل كبير، انطلاقا من تجربتي الشخصية حيث لم يحدث أن سألني أحد لم كتبت كذا، والحال أني نشرت مقالات نارية في الصحف المغربية والعربية والمصرية واللندنية والإلكترونية، بل لقد خصصت كتابا كاملا لحزب الأصالة والمعاصرة قلت فيه الشيء الكثير حين كان "التراكتور" في أوج انطلاقته يدهس كل من يعترض طريقه...
كما أن حرية العقيدة والاعتقاد مضمونة ايضا..دعك مما يقوله بعض الباحثين عن الاضواء، ففي المغرب هناك منذ عقود ملحدون ومشركون وعبدة أوثان، كما هناك مسلمون وأهل كتاب..فالبلد يتسع للجميع، حتى لوكالين رمضان، لكن شرط أن تحترم الأقلية مشاعر الأغلبية..
ففي كل شبر من المغرب هناك "ولي صالح" قد يكون من درجة قائد أو من درجة رئيس دائرة أو من درجة عامل أو والي..فالنفوذ الترابي يتحدد بحجم الكرامات، بل إن هناك "أولياء" لهم الولاية العامة على امتداد التراب الوطني وربما تشمل بركتهم دولا مجاورة..وهناك "أولياء متخصصون" في السيطرة على أمراض أو هواجس..
ولا تكتفي الدولة بحماية ورعاية هذا النوع من "المعتقدات"، بل تحترم حق "الفقراء" الذين لم يستطيعوا إلى الحج سبيلا، ليطوفوا ويسعوا في آسفي..وتجند كل أجهزتها لضمان حسن سير كرنافال الكانيباليزم الذي تشهده مكناس بمناسبة عيد المولد النبوي..وقس على ذلك..
وعلينا أن نعذر المندوبية السامية للتخطيط لأنها عجزت عن إعطاء تعريف دقيق لـ"الطبقة الوسطى" في المغرب، لأن فقراء البلد هم الذين يملأون الأسواق الممتازة، وهم الذين حولوا سُنة أضحية العيد إلى فرض، وهم الاكثر استهلاكا للحلال والحرام، بل إن المنازل العشوائية التي بنيت خارج القانون تتوفر على كثير من وسائل الرفاهية، والأمر لم يعد يقتصر على التلفزة والبارابول بل هناك طاقم من التجهيزات الإلكترومنزلية والتقنية المتطورة..ومن أراد المزيد من المؤشرات ما عليه إلا متابعة ما يصرفه "الفقراء" على أفراحهم وأتراحهم ومناسباتهم السعيدة والحزينة، وكم يكلفهم شهر رمضان والدخول المدرسي..؟
فهل فهمتم لماذا فشلت حركة 20 فبراير؟
ببساطة لأن الشعب بذكائه الفطري أدرك أن "اللي تسحر مع الدراري يصبح فاطر"، وهذه الحركة لم تكن سوى موجة مراهقة على كافة الأصعدة..
فالتغيير الحقيقي لابد أن يأخذ بعين الاعتبار الخلفيات التاريخية والبنيات الفكرية والسياسية والثقافية والاجتماعية المتوارثة..
فالمغاربة حين يرفعون شعار :"عاش الملك" -وفي المغرب الشرقي "يحيى الملك"- لا يقفزون على المشاكل والإحباطات والانحرافات، بل يرتبون أولوياتهم بشكل صحيح.
فالدعاء للملك بطول العمر هو دعاء لاستمرار النظام الذي يعني الاستقرار..والمواطن المغربي لم يكن غبيا بحيث فوت فرصة "20 فبراير" ولم يركب موجتها لتحقيق التغيير الجذري الذي يتمناه الجميع، بل إنه أدرك بفطرته أن نعمة الاستقرار أكبر من أحلام بعض المراهقين..ومشكلتنا الحقيقية تتمثل في أننا نعيش في حالة انفصال تام عن الواقع المحيط بنا، فكثير منا يعتقدون أن من حقهم التطلع للعيش في مستوى السويد - وهذا مبدئيا حلم مشروع شرط ألا يتحول إلى وسواس قهري- لكن بالمقابل عليهم ألا ينسوا أن قوة المغرب وضعفه يكمنان معا في تنوعه.
فالمغرب لم يدخل الإسلام على يد البيجيدي، ولم يعرف الاشتراكية مع الاتحاد الاشتراكي (نظرية مثيرة في كتاب «منهج الاقتصاد الإسلامي في إنتاج الثروة واستهلاكها» للراحل أحمد لسان الحق)، ولا هو تعرف على الحداثة مع البام، ولا هو في انتظار الشيخ المغراوي للاحتفاء بالقرآن.. بل هو أكبر من الجميع ويتسع للجميع، وقادر على تطهير نفسه بنفسه من كل الشوائب في الوقت المناسب..
فالبار مفتوح والمسجد مفتوح، والجوامع مكتظة بالمصلين وحلبات موازين مكتظة بالمتفرجين، والمرأة المغربية مطلوبة بالحلال والحرام..بالحلال حتى أن أهل المشرق يفضلونها على المصرية واللبنانية والشامية واليمنية لأنها ربة بيت من الطراز الرفيع..وبالحرام، حتى أن "برهوشة" من الفقيه بن صالح أدخلت بيرليسكوني السجن سبع سنين، وقضت على مستقبله السياسي وهو ما عجز عن تحقيقه كل خصومه ومنافسيه وأعدائه رغم عدتهم وعتادهم.. والمغاربة ينافسون على المراتب الأولى في مسابقات الغناء ويكتسحون مسابقات حفظ وتجويد القرآن في المشرق والمغرب..والبلد الذي يفترض أنه غارق في البطالة يجد فيه آلاف المهاجرين الأفارقة فرصا للشغل (خاصة الشاق منه)، بل حتى الإسبان أصبحوا "يحركون" جنوبا بعدما أصبح بلدهم على حافة الإفلاس، ووزارة داخليتنا تطالبهم -وهم بالآلاف- وعبر بلاغات رسمية بتسوية أوضاعهم..
ومن دون شك، فمن لا يدرك حساسية هذه الخلطة، سيكون من الصعب عليه التعامل مع العقلية المركبة للشعب المغربي..
كما أن نتائج "الربيع العربي" التي نراها على الأرض حاليا في الدول التي "ثارت"، تؤكد مرة أخرى أن هناك فرقا كبيرا بين مفهوم الثورة سياسيا وقانونيا وتاريخيا واجتماعيا، وبين توصيفها الإعلامي و"السيكولوجي"...
خلاصة القول..دعونا في سلام..يرحمكم الله..فقد أورد الطبراني أنه :"لَمَّا أَنْكَرَ النَّاسُ سِيرَةَ الْوَلِيدِ بن عُقْبَةَ بن أَبِي مُعَيْطٍ (فيه نزلت آية "إن جاءكم فاسق بنبإ.."..)، فَزِعَ النَّاسُ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بن مَسْعُودٍ،فَقَالَ لَهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بن مَسْعُودٍ: اصْبِرُوا، فَإِنَّ جَوْرَ إِمَامٍ خَمْسِينَ عَامًا خَيْرٌ مِنْ هَرْجِ شَهْرٍ، وَذَلِكَ أَنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ:لا بُدَّ لِلنَّاسِ مِنْ إِمَارَةٍ بَرَّةٍ أَوْ فَاجِرَةٍ، فَأَمَّا الْبَرَّةُ فَتَعْدِلُ فِي الْقَسْمِ، وَيُقْسَمُ بَيْنَكُمْ فَيْأكُمْ بِالسَّوِيَّةِ، وَأَمَّا الْفَاجِرَةُ فَيُبْتَلَى فِيهَا الْمُؤْمِنُ، وَالإِمَارَةُ الْفَاجِرَةُ خَيْرٌ مِنَ الْهَرْجِ، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا الْهَرْجُ؟ قَالَ:الْقَتْلُ وَالْكَذِبُ".
نحن إذن في نعمة كبيرة..ومن يسعى للتغيير الجذري عليه ألا يستعجل..وأن يترك الأمور تنضج على مهل.. فخطوات الشعوب بطيئة لكنها ثابتة.. وعجلة التاريخ تدور ولا يمكن لأحد أن يوقفها..و"من استجعل الشيء قبل أوانه عوقب بحرمانه"..
بدأت بالقرية وأنتهي إليها..فلاشك أن الاستاذ العبادي المرشد الحالي لجماعة العدل والإحسان يتذكر تلك الزيارة التي قام بها قبل سنوات طويلة إلى قرية رشيدة، عندما حل ضيفا في مناسبة اجتماعية، وكيف خطب في الحاضرين حول "الحكم الجبري والملك العاض"، وكيف رد عليه الحاضرون بأدب ولباقة بـ"فاتحة للسلطان ..اللهم انصره ولا تنصر عليه"..
هذه الحقيقة غائبة في الغالب عند من يُنظِّرون لـ"الثورة"..فما يعتبرونه غباء وسذاجة في الشعب، هو في الواقع ذكاء فطري.. قاده إلى الاكتفاء بـ"المن والسلوى" مع الاستقرار..وعدم التطلع إلى "بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها".. خلف "أسامة" وحركته..
وعلى القارئ في الختام وهو يقرأ هذا الكلام، مراعاة انعكاس فراغ المعدة على العقل في شهر الصيام..
|
|
2464 |
|
0 |
|
|
|
هام جداً قبل أن تكتبو تعليقاتكم
اضغط هنـا للكتابة بالعربية
|
|
|
|
|
|
|
|