فجأة أصبح من غير المستحب نقل المفردات السياسية المصرية إلينا. فجأة أصبحت كلمة “تمرد” سيئة، وأصبح الاقتداء بالثوار الأحرار الذين سيكملون المشوار عيبا وأمرا غير مقبول في بلد مثل المغرب. قلناها قبل هذا الوقت بكثير، وطلبنا من النخبة السياسية أن تكون نخبة بالفعل، وأن تبتعد عن تقليد العوام في التأثر بالتلفزيون وبمشاهدات التلفزيون.
صحنا أنه من المقبول من شاب هاو وغير ناضج ولا واع أن تؤثر عليه الجزيرة أو فضائيات الإسلام السياسي وأن يخرج علينا بكلمات البلطجية والشبيحة والبلاطجة مما يسمعه عما يجري ويدور في مصر أو سوريا أو اليمن، ولكننا قلنا أيضا إنه من غير المعقول ولا المقبول من نائب برلماني أو من قيادي من حزب سياسي محترم أن يأتي نفس الفرية، وأن نجده عبر مجلس النواب يقول هذا الكلام، ويردده عن وعي أو دون وعي.
حينها لم ينصت لنا أحد. بل قيل لنا أنتم “بلاطجة بلطجية شبيحة مخزنيون والسلام”. قلنا “آمين” لأن السب والشت لم يحل أبدا أي إشكال، وذكرنا مرة أخرى أنه من العيب بالنسبة لبلد مثل المغرب لديه لغة مثل اللغة الدارجة غنية من كل مناحيها، عميقة بكل دلالتها ومليئة بما لا ينتهي من المترادفات أن نلجأ لاستيراد الكلمات من شعوب ودول وبلدان أخرى بيننا وبينها بعضة المحبة عن بعد لا أكثر ولا أقل.
سمعنا الفلول، وسمعنا الحزب الأغلبي، وسمعنا الدولة العميقة، وسمعنا الحزب الوطني الحاكم، وسمعنا إعلام النظام البائد، وسمعنا كل شيء، وحذرنا أنها لعبة بوجهين وانتظرنا. وها هي اليوم قد دارو هاهم من كانوا يلجؤون ببدائية كبرى لاستعمال تلك المصطلحات المستوردة والغريبة عنا يطالبون بعدم إسقاط النموذج المصري على النموذج المغربي، ويقولون ألا علاقة بين مصر وبين المغرب، بين مرسي وبين بنكيران، بين الحرية والعدالة وبين العدالة والتنمية، بين التجربة هناك التي امتدت سنة ونيف، وبين التجربة هنا وهي تتعثر منذ سنة ونيف.
ماذا نقول لهؤلاء اليوم؟
خير القول ألا نغير ما قلناه منذ البد: الحمد لله أنكم فطنتم إلى أننا استثناء فعلا، وليس قولا وإنشاءا فقط. الحمد لله أن أتت هاته الهبة في مصر لتؤكد لكم أن العالم العربي كله في واد، وأننا في واد آخر. والحمد لله أنكم طلبتموها بأفواهكم هاته المرة: لا لإسقاط النموذج المصري ولا أي نموذج آخر علينا، ونحن نرحب بها مع بعض الشروط والإملاءات لئلا نتفادى كلية التشبه بما هو جار أمامنا في كل الشاشات.
أهم الشروط التي يتشبث بها المغاربة هي أن لا يهددنا أحد في أعز ما نملك: استقرارنا. هذا البلد لا موارد مالية خارقة له، هو لا يسبح فوق بحار من الغاز الطبيعي، وآبار البترول فيه مجرد صخور يقال لنا بين الفينة والأخرى إنها موجودة، ثم تغيب. فوسفاطنا بالكاد يغطي ما يحتاجه هذا الشعب، وسمكنا ملزم با
تفاقية تتجدد كل سنة مع جيران إسبان يعشقون أكلات السمك بشكل غريب خصوصا إذا كان زهيد الثمن مثل سمكنا، وثروة البشر فينا تائهة بين العطالة المفروضة، وبين إكراهات عديدة لا يمكن حصرها في هذا المجال.
شيء واحد نتوفر عليه ولا يستطع الآخرون أن يدعوا امتلاكه هو هذا الاستقرار، وهذا الكنز الغالي هو ما نعول عليه لمواجهة كل التحديات التي تواجه هذا البلد: شعبا ودولة. لذلك وحين نسمع مسؤولين علا أم صغر شأنهم يقولون لنا “راه ما قطعناش الواد وما نشفوش رجلينا” نحزن. عندما ننصت لأحدهم وهو يقول “راه كاينة العافية تحت الرماد” نصاب بالرعب لا خوفا على البلد، ولكن خوفا من بعض العقليات في البلد.
عندما لا يجد مسؤول أي طريقة لمواجهة خصومهم في الميدان إلا أن يخوفهم من الشعب، وأن يخوف البلد من القلاقل، وأن يهدد الناس بأنه الوحيد الضامن للاستقرار، نشعر أن ثمة مشكلا حقيقيا، ونتمنى أن لا يكون الأمر مفكرا فيه، وأن تكون فلتة اللسان مجرد فلتة لا يقدر مطلقها حجم الدمار فيها، بل يغلبه التأثر فقط بما يتعرض له في تسيير لم يألفه، فيطلقها للتنفيس عن غيظه والسلام.
هذا هو شرطنا الوحيد: لا تهددوا بلدنا بنا، فلن نرهنه يوما، ولن نساومه، ولن نمارس في حقه الابتزاز، أينما كنا.
جرم الإخوان الأكبر في الجزائر لحظة التسعينيات وفي مصر هاته اللحظة أنهم قالوا “نحن أو الطوفان. كان الطوفان في البلدين واختفى بعدها الإخوان.
لا نريد أن نسمع من أحد هنا مثل هذا الكلام، ولا نريد أساسا أن يؤمن مغربي واحد بأنه هو الحامي من الطوفان. هذا البلد كله سيحمي نفسه ولا مجال لأي نقاش، أما المصطلحات المستوردة، ومعها الأفكار الدخيلة فإلى زوال. هذا أمر لا شك فيه…