نصدر في هذا المقال عن حزمة من القناعات المبدئية ، أهمها أن التاريخ العربي الإسلامي المديد ( باستثناء مرحلة النبي محمد عليه السلام ، و سنوات محسوبة على رؤوس الأصابع ) ، قد خلا من الحكم السياسي الرشيد ، و ان الديمقراطية كنسق سياسي متكامل و مبنين بضاعة غربية ، و قد ضحت المجتمعات المتقدمة بالغالي و النفيس ، و عبر قرون من الاحتراب الداخلى ، كما أنها أمضت مئات السنين في إعمال الفكر و التنظير و الإبداع الخلاق .. إلى أن استوت الديمقراطية عندها كنظام سياسي ملزم ، يقوم على آليات و ميكانيزمات بالغة الدقة، تتيح للشعوب أن تحكم نفسها بنفسها من خلال الاحتكام إلى دستور يعكس تطلعات و آمال المواطنين نحو الحرية و العدالة و الكرامة و التنمية .. و الفصل التام بين السلطات التشريعية و التنفيذية و القضائية و الإعلامية ، والتداول السلمي على الحكم ، في انتخابات حرة و نزيهة . ومن بين القناعات المبدئية التي تؤطر تصورنا حول راهن الأمة العربية الجريحة ، أن استنبات المنظومة الديمقراطية الكونية في مجتمعاتنا من أصعب التحديات التي شغلت و لا زالت تشغل بال الخبراء و المؤرخين و رجال السياسة ، فالأمر جلل و يحتاج إلى بذل تضحيات جسام علميا و اقتصاديا و تنمويا و ثقافيا ..
2 و إذا أمعنا النظر في أنظمتنا السياسية العربية الكسيحة ، سنجدها كلها ( من الماء إلى الماء ) أنظمة عشائرية قبلية استبدادية ، تحكم رعاياها بعيدا عن المشترك السياسي الإنساني المتمثل في الديمقراطية فلسفة و أداة .و لما كانت كل الأنظمة العربية ( أتمنى أن أكون مخطئا )تتزعمها أسر حاكمة متحكمة ، فهي تحكم على نفسها بالعدم و الخروج عن منطق العصر و مستلزمات الحداثة و الأداء السياسي الراقي ، و تنهج مسلك القمع و القهر وسيلة لاستعباد الشعوب و إذلالها . بيد أن الشباب العربي و بعد طول انتظار حطم جدار الرعب و اسقط زعماء العار ، و طالب بتجسيد بناء سياسي ديمقراطي عربي طبقا للأعراف و المواثيق الدولية .. و نظمت الانتخابات في بلدان الربيع العربي و أسفرت عن فوز التيار الإسلامي المعتدل ، و صيغت الدساتير و تشكلت حكومات من أجل إنجاز برامج مجتمعية وبلورة تطلعات الشعوب الثائرة نحو الحرية و العدالة و الكرامة .. غير أن بقايا الأنظمة المطاح بها كان لها رأي مخالف ، إذ اجتمع الجيش و الفلول و المسيطرون على الاقتصاد و الإعلام على هدف واحد أحد : تعطيل التجارب الديمقراطية الفتية و اقتناص أخطائها الكثيرة و سذاجتها الطفولية للحيلولة دون تحقيق أي انتقال ديمقراطي ، خاصة وان جهات غربية و عربية لا ترى في الديمقراطية و الانتخابات و تقسيم ثروات الوطن بالعدل إلا تهديدا لمصالحها المادية العليا !
3 و يندرج الانقلاب العسكري المصري على الرئيس محمد مرسي المنتخب وفق الإرادة الشعبية ، في سياق العمل الممنهج من أجل إسقاط المكون الإسلامي من المجال السياسي العام ، و لو أدى الأمر إلى الحرب الأهلية و الاقتتال الداخلي و الدفع بالبلاد و العباد نحو المجهول / المعلوم : التدمير الشامل للأوطان و تقديم خدمة بالغة الأهمية لإسرائيل ، التي تنفجر فرحا بسقوط الدول العربية الوازنة الواحدة تلو الأخرى دون أن تطلق رصاصة واحدة ! إننا لا ندافع عن حكم الإخوان و لا نكن أي عداء لأي هيئة حزبية أو تيار سياسي بعينه، و لكننا ندافع عن الديمقراطية كأداة مثلى في إدارة الاختلاف و تدبير التعددية داخل المجتمعات العربية فى إطار التداول السلمي و الخاضع لقواعد العملية الديمقراطية المتعارف عليه دوليا ، بعيدا عن تهييج الجماهير و الدعوات المتواصلة إلى ملء ساحات التحرير ، و الصدامات الدموية التي يكون ضحاياها مواطنون أبرياء عزل . و لعل المجزرة التي نفذها الجيش المصري " العظيم " في حق أنصار الرئيس المعزول دليل ساطع على الأفق الدموي الذي قد ترتمي أم الدنيا في لهيبه . نأمل خالصين أن يتوقف الاحتراب الداخلي في مصر التي نكن لها حبا استثنائيا ، بيد أن هذا الأمل متوقف على جملة من الشروط المبدئية و الصادقة ، من ضمنها تنازل أطراف الصراع عن العناد القاتل و تبادل التهم المجانية و لجم الفضائيات التلفزيونية المتخصصة في الشتم و السب و صناعة الأكاذيب ، و إطلاق سراح الرئيس المعزول محمد مرسي بطريقة محترمة ، و إخلاء سبل كل المعتقلين من حزب الحرية و العدالة دون قيد أو شرط ، و الانكباب على بناء مرحلة جديدة ، و الإعلان عن تنظيم انتخابات رئاسية جديدة ، و ضمان حرية التعبير و الإفصاح عن الرأي و الرأي المخالف ، و صياغة دستور جديد في مناخ توافقي بعيدا عن إقصاء أي فصيل سياسي معين ، ضمن جدولة زمنية محددة . إنها خطوات صعبة و تكاد تكون مستحيلة ، لكنها الوحيدة القادرة على حل هذه المعادلة السياسية بالغة الخطورة !
الصادق بنعلال – كاتب من المغرب