اعتقدنا أن المصريين سيمسكون بتلاببينا عندما يحل رمضان فقط، ومنينا النفس بالفرجة الطويلة على مسلسلاتهم مثلما جرت بذلك العادة منذ القديم، ما دمنا عاجزين عن إنتاج مسلسلات تشد انتباه المغاربة، لكن أهل المحروسة أصروا على أن يقدموا لنا مسلسلا واقعيا قبل رمضان بوقت قليل، جعلونا بموجبه أسرى الشاشات الصغرى بمختلف انتماءاتها المصرية المختلفة.
في المقاهي المغربية، وفي المنازل وفي كل مكان الصورة واحدة: كل طرف يلتقط القناة التي توافق هواه وهوى ما يريد سماعه عن تطورات المشهد المصري، بين الليبراليين أو العلمانيين أو الحداثيين الذين يتابعون قنوات “سي بي سي” أو “القاهرة والناس” وغيرهما، وبين مناصري الإسلام السياسي الذين يقلبون الوجه جهة “الحافظ” أو “مصر 25″ أو غيرهما من قنوات بث الفكر المتشدد عبر التلفزيون.
في كل الحالات الفرجة مضمونة، حد تشبيه نادل في المقهى لما يقع من مواجهة بين الليبراليين والإسلاميين في مصر وفرجة المغاربة عليهم بما يقع في مباريات البارصا والريال قائلا: “الفراجة كاينة، والمشجعين حتى هوما كاينين واخا حنا ما عندنا حتى علاقة”.
السؤال الذي يتجاوز السخرية العابرة من المشهد ككل هو سؤال سبب تعلقنا بهاته الفرجة بهذا الشكل المثير فعلا للانتباه. الإجابات عديدة ويمكن إجمالها في التالي: طبقتنا السياسية لا تقدم لنا على امتداد السنة عرضا سياسيا مثيرا للفرجة، لذلك نضرب عنها صفحا، ونعتبرها غير جديرة بالتتبع أو المتابعة. لهذا وعندما يقترح علينا المصريون وهم أناس متحدثون من الدرجة الأولى، نقارهم السياسي وإن غاب عنه العمق في عديد الأحايين، نجدنا متسمرين أمام الشاشات، نتابع ونتفاعل، ونعتبر أن الأمر جدير بالتأمل حقا.
لدينا أيضا نقص فظيع في البرامج الحوارية في تلفزيوننا المحلي لا يوازيه إلا التضخم المبالغ فيه لهذه البرامج في تلفزيون المصريين، لذلك ترانا نسارع لتسقط أخبار هذا التلفزيون، وترى أغلبيتنا معجبة ببرنامج باسم يوسف أو إبراهيم عيسى أو وائل الإبراشي، وتراها في الوقت ذاته عاجزة عن إبداء الإعجاب ببرنامج مماثل على الضفة المغربية بكل بساطة لأنه “بح”، أو بعبارة أخرى “ما كاينش”.
من أسباب متابعتنا المكثفة لما يقع في مصر هاته الأيام إحساسنا أنه صورة مكبرة لصورة مصغرة سنحياها _ليس بنفس التفاصيل_ إن آجلا أو عاجلا. نحن كنا باستمرار قادرين على وضع مسافة بيننا وبين المشرق، لكن ومع الزحف الكبير لوسائل الإعلام الحديثة أصبح الأمر شبه مستحيل، والدليل عليه هو أن عددا من نقاشات الشرق التي كانت بعيدة عن العقلية المغربية تماما وجدت الطريق إلينا (تزويج الصغيرات، فرض النقاب، تهديد الصحافيين والمثقفين وإصدار الفتاوى في حقهم)، مثلما وجد مصطلحات مصرية من قبيل “الدولة العميقة” أو “الفلول” أو غيرها من كلمات الفضائيات التي تعبر بسهولة إلى العقلية المغربية القابلة للتقليد مثل عقلية إسلاميينا الذين تعودوا فجأة وأدمنوا مثل هاته المصطلحات رغم أن لا علاقة لها بالبيئة المغربية.
وقد كتبتها مرارا إبان حراك عشرين فبراير بخصوص كلمة البلطجية لأنها كلمة لا وجود لها لدينا، ولا علاقة لها بنا، واستعمالها غبي فعلا حين يتم وضعها قسرا على المشهد المغربي، لكن الأمر أقوى من مقاومة شخصية أو مقاومة فردين أو ثلاثة لأنه مندرج في إطار هاته العولمة الإعلامية التي نعد جميعا ضحايا لها بوعي أو بدونه.
نتابع الحدث المصري أيضا عبر قنوات مصر لأنه “ما كاين ما يدار” في البلد. ليس هناك عاقل واحد يتصور أن ما يحدث بين شباط وبنكيران أمر جدي فعلا. طبعا نحن باعتبارنا صحافة لا بد أن نتابع الموضوع، وأن ننقل تطوراته كلما استجد فيه حادث أو عبارة أو كلمة أو سبة أو شتيمة بين الرجلين وبين حزبيهما، لكن المسألة في العمق لا تستحق كل الضجيج المثار حولها، والمغاربة يتصورون أنهم قد يستفيقون يوما فيجدوا عبد الإله وحميد متصالحين، وسيتذكرون حينها المأثور الشهير عن الشيء الذي يدخل بين الظفر واللحم، وسيقولون لأنفسهم على سبيل العتب الضروري “حنا اللي درنا عقلنا فيهم واخا عارفينهم مزيان”.
أخيرا وبكل جدية هاته المرة نتابع الشأن المصري لأننا نحس البلد يهمنا أكثر من أي بلد أجنبي آخر. القاهرة وحضارة الآلاف من السنوات، والفن والفكر والثقافة والآداب وكل العلوم أتت من تلك الأرض. وحقيقة يشق على النفس أن يكون الآتي من هناك أناسا مثل مرسي أو الشاطر أو الظواهري أو العريان أو غيرهم من النماذج التي لا يمكنها أن تعوض في (المخيلة العميقة) منا جميعا نجيب محفوظ وأم كلثوم وطه حسين وسعد زغلول وجمال عبد الناصر، وهذا السلسال المجيد من الكبار.
نتابع اليوم ما يقع هناك بحزن من لا يجد بدا عن المتابعة، فدورة الزمن قد أتمت طوافها، ولحظة الرداءة فيها اليوم أكبر مما عداها، لذلك لا اختيار.