آمن الكاتب سلامة موسى بأن تحرير الطبقات الفقيرة من عبودية الاستغلال الطبقي لا بد أن يبدأ بتحريرها من العبودية للخرافة والأسطورة. لذلك يحاول في هذا الكتاب التأكيد على الحرية بوصفها غاية قصوى وتقديم نماذج من الصلابة الإنسانية في التمسك بالرأي لدى مفكرين كبار شرقًا وغربًا. "لم نعرف قط أن إنسانًا تقدم للقتل راضيًا أو كد نفسه حتى مات في سبيل أكلة يشتهيها أو عقار يقتنيه. وإنما سمعنا عن أناس عديدين تقدموا للقتل من أجل عقيدة جديدة آمنوا بها ولم يقرهم عليها الجمهور أو الحكومة". أليس ذلك هو صلب ما يجري الآن على أرضنا العربية من مواجهة بين شباب آمنوا بالحرية ولم تقرهم الحكومات على إيمانهم؟ بلى، وهذا ما يجعل كتاب سلامة موسى أفضل هدية من "مجلة الدوحة" لقرائها إكبارًا لقيمة الحرية.
يشير المؤلف إلى حرية الفكر في العصور القديمة، قائلًا: يجب أن نذكر أن الآلهة القديمة لم تكن في قوة آلهة الأديان المعاصرة الحاضرة؛ لأنها لم تكن قادرة على كل شيء كما يعتقد الآن المسيحي أو المسلم في إلهه. فكان بين الإنسان وبين ربه مجال للفكر في جملة موضوعات لا يستطيع أهل الأديان الحاضرة أن يفكروا فيها ما لم يتناقضوا مع ما ذكرته الآلهة. وخلاصة كلامنا: إن الإنسان القديم كالمتوحش الحديث لم يكن حر الفكر؛ لأن نواهي الطبو كانت كثيرة، إن الإنسان بدأ ينظر للأشياء التي حوله نظرًا علميًّا ساذجًا، كانت الآلهة القديمة غير قادرة على كل شيء فكان في عجزها هذا بعض التيسير للحرية الفكرية، وأخيرًا لما ارتقى الإنسان بعض الرقي خفت سلطة الطبو، واستأثر الآلهة بالسلطة، واندمج ما تبقى من نواهي الطبو في الديانات الإلهية، فاتسعت بذلك الحرية الفكرية بعض الاتساع.
ويضيف المؤلف: والآن يجب أن نشيع الحرية الفكرية في العصر القديم بعرض بعض حوادث القرن الرابع ويحسن بنا لكي ننقل للقارئ نفس هذا القرن أن نترجم لحياة اثنين من عظمائه هما: يوليان الإمبراطور الكافر، وهيباتيا الفتاة الفيلسوفة بمدرسة الإسكندرية، كان يوليان ابن أخت قسطنطين الإمبراطور الروماني الذي جعل القسطنطينية عاصمة الدولة، والذي جعل المسيحية دينًا للدولة، وولد يوليان سنة 331 وحمله أهله إلى آسيا الصغرى، حيث درس الفلسفة اليونانية في نيقوميدية وأخذ يدعو الطلبة إلى دور العلم عندما صار إمبراطورًا، ولا يستطيع أحد أن يتوقع ما كان يمكن أن يفعله يوليان لو أن حكمه دام أكثر من سنتين. حاول أن يمحو ثقافة آسيا، ويقيم مكانها صرح الفلسفة اليونانية. وما كانت سنة 414 كان بجامعة الإسكندرية أستاذة تدعى هيباتيا في الخامسة والأربعين قد اختصت بدرس الحكمة وتدريسها، وكان الطلبة الذين يحضرونها يعشقونها لحسن بيانها وللنزاهة التي تتسم بها في عصر كان كله سفالات وتعصبًا.
وينتقل سلامة موسى إلى التسامح في الإسلام، فيقول: من أحسن الكتب التي وضعت في اللغة العربية في بدء هذا القرن كتاب "ابن رشد وفلسفته" الذي ألفه "فرح أنطون" وهو أول كتاب ظهر باللغة العربية يدافع عن حرية الفكر والتسامح الديني.. وقال "المستر دريبر" أحد المؤرخين ومن كبار الفلاسفة: "إن المسلمين الأولين في زمن الخلفاء لم يقصروا في معاملة أهل العلم من النصارى النسطوريين ومن اليهود على مجرد الاحترام بل فوضوا إليهم كثيرًا من الأعمال الجسام ورقوهم إلى المناصب في الدولة حتى أن هارون الرشيد وضع جميع المدارس تحت مراقبة حنا بن ماسويه".
ويذكر المؤلف: في تاريخ الفرق الإسلامية من حيث منشؤها وأغراضها تنقسم لقسمين: فمنها تلك الفرق التي لم تكن ترمي إلى أبعد من الغاية الدينية والتصوف وتتغذى من الأديان الأخرى كالمسيحية والمانوية والفلسفات الإغريقية، ومنها تلك الفرق الأخرى التي تسترت بالدين وكانت ترمي منه إلى غاية سياسية. وموضوع الفرق الإسلامية لا يزال غامضًا لم يُمحص للآن، ولذلك سنقنع فيما يلي برواية الواقع دون أن نبحث عن العلل والبواعث. فالواقع أنه ظهرت بمصر وسوريا والعراق فرق عديدة، كافحت سرًا وجهرًا بالسيف وبغير السيف لكي ترفع سلطان الحرية الفكرية وتهدم أساس الدين. وكان عبد الله بن ميمون القداح أول من دعا إلى تأسيس فرقة لهدم الدين، وكان أبوه ملحدًا يحارب الإسلام سرًا بتزييف الأحاديث.
ويشير المؤلف إلى منشور لمنع الفلسفة فيذكر: لما نُفي ابن رشد إلى اليسانة أذاع المنصور خليفة الأندلس في ذلك الوقت هذا المنشور بين سكان الأندلس ينهاهم فيه عن الاشتغال بالفلسفة. وقضت الأقدار أن ينهزم ابن رشد وأن تنهزم معه الفلسفة في الأندلس. ولكن لنا أن نتساءل: هل كان ينقرض المسلمون في الأندلس لو أن الناس كانوا أحرارًا في تفكيرهم؟
وينقلنا المؤلف إلى حرية الفكر في العصور الحديثة فيذكر: استقت النهضة روح التجديد من ثلاثة مصادر: الأدب وفنونه من الإغريق القدماء، من العلوم التجريبية من عرب الأندلس، من دراسة الكتاب المقدس من العبرانية والإغريقية.
ويقول: اعتدنا رؤية الكتب والصحف نقتنيها ونقرأها بل نطرحها لكثرتها ولقلة أثمانها حتى ليكاد ويتعذر علينا أن نتصور زمنًا كان يعيش فيه الناس بلا كتب أو صحف مطبوعة، ومع ذلك فإن هذا كان الواقع إلى قبل القرن الخامس عشر، ولم يكن الطبع نفسه مجهولًا فإن الشرقيين الغربيين كانوا يعرفون الأختام منذ زمن بعيد، ومع ذلك لم يفكر أحد في طباعة الكتب إلا في قرن النهضة في القرن الخامس عشر وتنسب الطباعة الحديثة إلى "جوتنبرج" الألماني الذي مات سنة 1468، فهو الذي صنع الحروف المنفصلة وطبع بها عدة كتب.
ويقف المؤلف عند الحديث عن حرية الفكر في القرن التاسع عشر قائلًا: يعتبر القرن التاسع عشر هو القرن الذي استقرت ورسخت فيه الحرية الفكرية، واتسم بثلاث نزعات تأيدت بها الحرية الفكرية: تمرد العمال في جميع الأقطار الأوروبية، وتفشى بينهم النظر الثوري في أحوال معيشتهم، وتعدى هذا النظر أحوال المعيشة إلى أحوال الضمير فنزعوا إلى الحرية في الدين. أقبل العلماء على درس العلوم بشراهة وإدمان، تحول درس كل الكتب المقدسة من الإيمان والتسليم إلى النقد والتمحيص بمقابلة التواريخ والتنقيب عن الآثار.
والقرن التاسع عشر حافل بأسماء العلماء والفلاسفة الذين جاءوا بتفسير الكون دون الرجوع إلى العقائد مثل: شوبنهور، وكونت، وسبنسر، ونظمت في أواخر القرن "جمعية الدهرين" في إنجلترا وشرعت تطبع الكتب العلمية والتاريخية، ويقال: إنها قد باعت من مؤلفاتها نحو ثلاثة ملايين نسخة كلها في مقاومة الأديان.