ثمة أمر ملفت للانتباه في سلوك النخب والحكام والتيارات المؤثرة في البلدان الإسلامية، وهو إصرارها على تكرار نفس السلوكات التي أفضت إلى نتائج كارثية في بلدان عديدة، والتشبث بها باعتبارها الخيار الوحيد الممكن، الذي سرعان ما يتبين أنه خيار انتحاري يرهن مصير الكل، من أجل وهم جماعي استمر لأزيد من قرن، وهو وهم الاعتقاد في عدم وجود إمكان للنهوض بغير العودة إلى الماضي، وبأن أسباب نهضة الأمم والشعوب المتقدمة لا يمكن أن تكون هي نفسها أسباب نهضة المسلمين، الذين قدرهم دون غيرهم من الأمم أن يعيشوا تراثهم الذي تحول إلى جرح لا يندمل، بل إنه أصبح بعد تعفنات وإصابات جرثومية عديدة، يهدّد من حوله بالعدوى القاتلة.
في قرارة العقل العربي ـ الإسلامي، ثمة قناعة راسخة مفادها أن أخطاء المسلمين إنما هي أخطاء في التطبيق لا في الفكرة ذاتها، وأن ما يرسخ الخطأ وجود مؤامرة تحاك دائما من الخارج، أي من قوى الشر الأجنبية، وهو ما يضفي طهرية على الذات تجعلها آخر من يعلم بنقائصها التي تصبح في بعضها فضائح مدوية.
يتخذ الماضي في العقل العربي ـ الإسلامي صورة مثالية، يكشف التاريخ عدم صحتها، ولهذا لا يحبّ المسلمون التاريخ، لأنه ينتهك أحلامهم ويفسد مشروعهم المبني على المتخيل، فإذا كان المشروع المستقبلي هو استعادة الماضي، فإن الماضي لا بدّ أن يظلّ مثاليا في الأذهان، لا تشوبه شائبة، ولهذا نجد بعض المسلمين ـ ومنهم الشاب الطالب بأكادير ـ مستعدين لذبح من يخدش المثال في عقولهم.
ينزعج العقل العربي الإسلامي انزعاجا كبيرا من تفوق الآخر في كل الميادين، فيعمد إلى هجائه أخلاقيا، فالغرب منحلّ وبلا أخلاق، هكذا يخبرنا السيد طه عبد الرحمان، وكأن المسلمين معدن الأخلاق السامية النبيلة، وهم الذين يتسترون منذ قرون طويلة على كل أنواع الموبقات والأمراض النفسية والاجتماعية، الظاهر منها أو الذي يخفونه وراء ستار سميك من تقاليد النفاق والرياء ومظاهر التديّن الفولكلورية.
قد يصحو المسلمون يوما بفضل صدمة قوية يتلقونها من التاريخ، فيجدون الطريق الصحيح إلى النهضة الحضارية الحقيقية، وقد يظلّ هذا حالهم لزمن غير يسير، لكن الذي نحن متأكدون منه، أنه لم يسبق لأمة من الأمم أن انبعثت بدون أن تعترف بتخلفها وترى رأي العين أسباب ضعفها فتعمد إلى تغيير جذري في الاتجاه، تعطي بموجبه الأولوية للواقع على الحلم، وللفكر على الاندفاع والعاطفة، وللعلم على الخرافة، ولدينا حالات شاهدة يكفي استلهامها، فقد نهضت اليابان بعد أن قررت تطليق أوهامها الأمبراطورية وثقافة الساموراي العتيقة، وأصبحت بعد هزيمتها العسكرية سيدة أسواق العالم، ونهضت ألمانيا بعد أن قررت توديع فكرتها الأسطورية عن تفوق الجنس الآري الذي ينبغي أن يحكم العالم، وصنعت معجزتها الصناعية، ونهضت تركيا بعد أن قطعت قطيعة موجعة مع تخلف الشرق العتيق وتاريخ الإقطاع والٍإرهاب العسكري، وانتفضت شعوب أوروبا الشرقية وأمريكا الجنوبية ضد الاستبداد العسكري وإيديولوجيا الحزب الوحيد، وأسست ديمقراطيات فريدة تتقوى يوما عن يوم. ولم تستطع شعوب ما يسمى بـ"الربيع لعربي" أن تتخطى أسباب تخلفها، ولم تؤد انتفاضاتها إلى ما يقطع مع ماضي الاستبداد والتخلف، بل انتقلت من الصراع ضد الاستبداد إلى شرعنته دينيا وإيديولوجيا، ليتبين بأن الثورة الحقيقة لا تتمثل في إسقاط الحكام والتخلص من بعض الوجود، بل تقع قبل ذلك في العقول والأذهان.
أحمد عصيد.