فرق حضارة بين فرنسا التي تركت رئيسها جاك شيراك ليستمتع بتقاعده بعد سنوات طويلة من العمل السياسي رغم وجود قضية كانت تنتظر الرئيس الفرنسي السابق بسبب توظيفات خيالية أثناء شغله لمنصب عمدة باريس، وبين مصر التي "تجرجر" رئيسها السابق حسني مبارك في المحكمة، وتنقتم منه بطريقة بدائية للغاية، يوجد فارق واحد لاغير، هو فارق الحضارة. المصريون الذين جعلونا نحفظ عن ظهر قلب في مسلسلاتهم أنهم "بناة الحضارة وصناع التاريخ، وهم المستهل والنهاية"، يقدمون أسوء أنواع الفرجة الممكنة اليوم على بلدهم الكبير، الذي استصغروه إلى درجة لايمكن تخيلها، والفرنسيون الذين يعدون أًصحاب أشهر ثورة في تاريخ الإنسانية حقا (ثورة 1789)، يقدمون من خلال الصبر على "جاك الكبير" مثلما يسمونه وانتظار فعل الزمن فيه درسا جديدا من دروس قدرتهم على "تلافي الضرورة القانونية أحيانا احتراما لرمزية من كان الرئيس". لست ممن يدعون إلى الإفلات من العقاب، ولست ممن يقولون "صافي، عفا الله عما سلف"، لكنني بالمقابل من أشد المعارضين لتلك القدرة الخرافية التي يمتلكها الكثيرون على إطلاق النار على سيارات الإسعاف، ولايحضرني في اللحظات القاسية جدا التي ينهزم فيها كبير سابق إلا المأثور من قولنا "إرحموا عزيز قوم ذل". وفي حالة مصر بالتحديد يصعب على عقلي البسيط أن يصدق أن الفساد الذي عرفته المحروسة على امتداد سنواتها الثلاثين الأخيرة كله ليس إلا مبارك والمسؤولين السبعة الذين يقفون معه في القفص. على امتداد ثلاثين سنة ويزيد لايمكن لرجل واحد أن يكون الفساد كله، ولايمكن لإبنيه ولبضعة وزراء أن يكونوا هم الإمبراطورية التي تسببت لشعب مصر في الفقر وفي السرطان وفي كل الشرور التي يقال اليوم في الإعلام المنافق هناك إنهم كانوا سببها. الفساد منظومة كاملة متكاملة قد يكون لها وجه بارز هو الرئيس، وقد تكون لها بعض العلامات مثل أبنائه أو أسرته الصغيرة أو وزرائه والمحيطين به والمنتفعين منه، لكن الفساد يتطلب ما هو أكبر من كل هذا. االفساد يتطلب لكي "يزدهر وينمو" شعبا يقبل به، ويقبل على نفسه أن يعيش تحت الرجلين، ويوافق على أن يرى خيرات وطنه وأمرها يدبر بعيدا عنه. الفساد يتطلب تواطؤا من الجميع، وفي حالة الدول العربية المنصورة بجهلها وأمية شعوبها، لايمكننا إلا الاعتراف أن كل المكونات جاهزة لكي تكون وصفة الفساد ناجحة كل مرة في الوصول إلى مبتغاها. لذلك يبدو لي المشهد في مفارقاته قاسيا للغاية بين دولة مثل فرنسا تقيم للديمقراطية ولحقوق المواطنين كل الاعتبارو لكنها ترفض المساس بمن كان رمزها لولايتين رئاسيتين، وبين دولة مثل مصر لم تتورع قيادتها العسكرية اليوم في رمي الرئيس على سريره وإرساله إلى قفص الاتهام لكي تتوقف المليونيات ويتوقف القطيع عن المطالبة بكل شيء وبلا شيء في اليوم ذاته هل نقول إن فرنسا تخرق القانون وهي ترفض اليوم أو وهي تؤجل يوما بعد يوم محاكمة رئيسها السابق؟ وهل نصدق أن مصر اليوم هي النموذج المشرق لتطبيق القانون طالما أنها استطاعت جر فرعونها السابق إلى القضاء؟ قطعا لانستطيع. العكس هو الذي يفرض نفسه علينا كخلاصة. فرنسا التي تعرف أن لها رؤساء آخرين سيأتون بعد شيراك سيمثلونها باعتبارهم رموزا للأمة، تعرف أيضا أن عليها أن تترك لمهمة رئيس الجمهورية بعض الاحترام الواجب، في الوقت الذي لايعرف عسكر مصر سوى أن عليهم أن يسكتوا الغاضبين الذين اكتشفوا لعبة "يا الله بينا عالميدان في الفاضية والمليانة"، إلى الدرجة التي أبدعت فيها النكتة المصرية الحاضرة دوما الموقف الساخر الذي يتوجه بموجبه الأزواج إلى ميدان التحرير للاعتصام كلما رفضت زوجاتهن مشاركة السرير معهن لسبب أو لآخر. المشهد العربي الحزين الذي يقدم نفسه للعالم، مجرد دليل آخر على أن هذا المشرق وأمراضه العديدة حالة ميؤوس منها تماما. ومن يريدون لنا أن نسير على هدي هؤلاء عليهم فعلا أن يتذكروا أننا قومنا لعقود طويلة بل ولقرون هذا الغزو المشرقي بكل أنواعه، وأن جيل اليوم لن يقبل أن يكون هو الجيل الأضعف الذي ستتسلل منه أمراض الشرق وأدواؤه إلى هذه الديار. لذلك يكفينا فعلا أن نتفرج على المصريين مثلما فعلنا دائما، أمس في مسلسلاتهم وأفلامهم، واليوم في "تلفزيون الواقع" الذي يقترحونه علينا، وأن نتجنب تقليدهم، لأننا أولا لانتقنه، ومشهدنا يكون غريبا وكاركاتوريا حين نحاول الرطن بلغتهم أو ارتداء ملابسهم، ولأننا ثانيا نرفض أن يصلنا يوما كل هذا الجلد الذاتي لجزء من تاريخهم، ونأمل بالمقابل أن تكون لدينا القدرة على تقليد المتقدمين، ولو في انحناءتهم الصغيرة هاته تلافيا لتطبيق قانون قد لايكون صالحا للتطبيق كل مرة. ملحوظة لاعلاقة لها بماسبق حالة التأهب الكبرى التي نرى عليها رجال الأمن في الدار البيضاء هذه الأيام، مسألة طيبة للغاية تكشف اهتمام هؤلاء بالسهر على عدم وقوع أي شيء من شأنه تعكير صفو الزيارة الملكية للبيضاء، ومستعملو الطريق سينتبهون بسهولة إلى الإجراءات المصاحبة لهم في تنقلهم، وكيف لاتستمر الاختناقات المرورية إلا فترة قصيرة لاعلاقة لها بالاختناق العادي الذي نحياه على امتداد العام، بل والذي عشناه مع بداية رمضان قبل الزيارة الملكية. أليس ممكنا أن يحضر التأهب ذاته باستمرار، وأن يحرص الأمنيون على أن يكون هذا التشدد في احترام القوانين على امتداد السنة كلها؟ مجرد سؤال، "وحق الله العظيم آلشاف".