أتاني صوت سعيد مغتاظا يومها ونحن في اجتماع صباحي للتحرير. “واش هاد البلاد ما بقا يغير عليها حد ولا كيفاش؟”. سعيد موظف إداري مسؤول في مصلحته، ورجل يحب بلاده كثيرا مثل أغلبية المغاربة، وسبب غيظ الرجل وغضبه ذلك الصباح عنوان قرأه في صدر الصفحة الأولى لجريدة مغربية كتب فيه “الناشطة أميناتو حيدر”.
لم يفهم سعيد معنى كلمة “الناشطة”، أو في الحقيقة هو لم يرد أن يفهمه. فأميناتو بالنسبة إليه صوت انفصالي خائن لقضية أغلبية المغرب، ووصفها الملائم هو الانفصالية لا الناشطة، وأن تكتب جريدة مغربية الكلمة بالنسبة إليه مسألة تمس شعوره الوطني وشعور العديدين الذين يعرفون أن كثيرا من التضحيات التي أداها وسيؤديها ويؤديها الآن المغاربة سببها الصحراء وثمن الصحراء.
لذلك قال كلاما كثيرا عن المغرب، وعن الوطنية وعن هاته القدرة على الحياد في قضية لا تقبل أي حياد لأنها تمس وحدة البلد ووحدة ترابه، ومن شأن أي تطور سلبي فيها أن يذهب بنا إلى هاوية لن نخرج منها أبدا.
لم أجد كلمات أقولها لسعيد ذلك الصباح سوى وعده مجددا أن نكتب عن الأمر علما أننا كتبنا حوله الكثير، وكنا جميعا في هاته الجريدة نصل حتى موضوع الصحراء ونعرف أنه فوق المزايدة الصحفية الصغيرة، أو الرغبة في اكتساب بضعة قراء جدد، لأن المسألة تهم الوطن، وتهم مستقبل هذا الوطن.
لم أستطع أن أقول لسعيد ذلك الصباح إن هذا الأمر لم يعد يساير الموضة، وأنه أصبح من باب التخلف الصحفي أن تكتب مدافعا عن وحدة تراب وطنك وإلا وصفت بأنك “عميل للمخزن تتلقى مقابل ما تكتبه”، بل أحيانا يقال لك إنك “تلقيت الاتصال الهاتفي أو الأمر بهذا النوع من الكتابة وأن الأفضل بالنسبة إليك إذا أردت أن تظهر صحافيا “واعرا” هو أن تكتب ما تريد أميناتو والتامك وبقية السلسال العجيب أن يطلعوا عليه، وأن يرسلوه إلى الأسياد في تندوف.
لم أستطع أن أقول لسعيد إن “الشروق” الجزائرية أًصبح لها اليوم نسخ مغربية لا تستحي أبدا من التعامل مع الموضوع من فوق، وبنظرة استعلاء محايدة، والمبرر جاهز دوما “هم لم يشركونا أبدا في ملف الصحراء ولا في تدبيره، فلماذا سندافع عن تصورهم للأمور؟”. تقول لمن يطرح السؤال إن الفرق هائل والبون شاسع بين مخاصمة الدولة أو معاداة جزء رسمي منها وبين معاداة وحدة الوطن. تضيف أن اللعب مقبول مع كل شيء إلا مسألة الوحدة الترابية هاته التي لا تتقبل _خصوصا في هاته اللحظة الحاسمة_ أي تقصير، أو أي تهاون أو أي تجاوز.
كلامك يبقى صيحة في واد. وحتى عندما تذكر نفسك وتذكر الآخرين أن دولا مثل إسبانيا وفرنسا توقفتا منذ زمن طويل عن وصف انفصاليي الباسك بالناشطين، وأصبحت الكلمة واضحة منذ أن مر هؤلاء إلى السلاح وإلى الإرهاب _مثل البوليساريو تماما_ في كل وسائل الإعلام في الدولتين معا، وهما من هما في الديمقراطية واستقلال إعلامهما، تسمي الباسكيين الطامعين في الانفصال بالانفصاليين، ولا تضع كلمة الناشطين أمامهم ولو على سبيل المزاح, (حتى عندما تفعل ذلك) لا أحد يكترث، ولا أحد يسمع أو ينتبه
وحدهم أناس مغاربة أصلاء مثل سعيد أو غيره يحسون بهاته الكلمات وهي تمس شعورهم الوطني، وتجرح اليقينيات التي أمضوا العمر كله يبنونها حول وحدة بلدهم، وحول ضرورة التضحية بأي شيء من أجل أن يبقى هذا البلد سالما ومن أجل أن يبقى ترابه كاملا غير منقوص ولو من شبر واحد.
وحدها أرملة ودعت زوجها على أمل لقاء لم يأت أبدا أيام حرب الرمال ستحس بالألم وهي تقرأ أميناتو حيدر توصف بالناشطة، ووحدهم صغار لم يروا أباهم قط لأنه مات على يد البوليساريو سيحسون وهم يطالعون هاته الجريدة التي كتبت هذا الكلام بأن أباهم مات من أجل لا شيء، وقضى نحبه ولم ير صغاره وهم يكبرون من أجل أن يأتي يوم تكتب فيه جريدة مغربية عن انفصاليي البوليساريو “الناشطين”، ومن أجل أن تحاور هاته الجريدة أو المجلة عبد العزيز، وأن نلجأ إلى الحياد المهني المطلوب والرائع في حياده لكي نعرف رأي الخصوم فيما يجري حول هاته الأرض.
عندما أسمع بعضهم يحتد بسبب فلسطين أو بسبب إسرائيل، ويغضب لفيلم عرض هنا أو لمشارك أتى من تل أبيب إلى المغرب، ثم أرى نفس البعض صامتين على من يريد بالمغرب سوءا ومن يمضي اليوم والليل بطولهما في تدبيير المصائب تلو المصائب لهذا البلد، أتساءل على سبيل التساؤل فقط لا غير: من أين يأتون بكل هذا الدم البارد؟
هذه الصحراء كانت جرحا منذ البدء، وستواصل نكء الألم فينا إلى ختام الأيام. هذا ما يبدو لي أنا على الأقل، والله أعلم طبعا. ولا عزاء لمن يحب بلده يا سعيد…