ولم يحدث قط أن تأفف أحد من التقاليد المرعية، أو أرغمه أحد على ممارسة هذه التقاليد، فأولحاج عضو اللجنة الاستشارية الملكية لتعديل الدستور، رفض ارتداء الجلباب والشاشية، من دون "فلسفة" ولم يجتهد في البحث عن أصلهما أهو فاس أو مكناس أو خنيفرة، وعبدالحميد أمين جاء إلى التلفزة وقال إنه ينبغي وضع حد لتقبيل يد الملك، لكن الكثيرين ممن أُتيحت لهم فرصة السلام على الملك بعد ذلك لم يعملوا بهذه النصيحة، من دون أن يطال أحدهم عقاب أو يزاحوا من مناصبهم، بل إن العديد من الشخصيات، ظلوا يكتفون منذ أن اعتلى محمد السادس العرش، بالسلام باليد مع انحناءة رأس أو تقبيل الكتف، من ثمة يحق التساؤل عن العلاقة بين الحراك الشعبي والتقاليد المرعية، التي تندرج تحت بند حماية الخصوصية المغربية.
ويكفي أن المملكة بريطاينة، التي لا تغيب عنها الشمس، إحدى أعرق الديمقراطيات في العالم، لم تمس قيد أنملة، تقاليد التاج، بل إن الشعب يصطف ويزدحم على ضفاف الشوارع والأزقة المؤدية إلى القصر من أجل رؤية الملكة تمتطي عربة تجرها الخيول، ومئات الجنود بزيهم الذي لم يتغير منذ القرون الوسطى يقفون على مداخل الأبواب أو يركبون صهوات خيول تم اختيارها بعناية، ولعل في طقوس زواج الأمير وليام الذي تابعه مئات الملايين على شاشات التلفزة، ليس تعطشا لرؤية العروس، وإنما حرصا على متابعة طقوس لا تتكرر إلا بمناسبة كل زواج، خير دليل على صدق المثل المغربي "الجديد لو جدة والبالي لا تفرط فيه".
وفي المغرب، لا تحدث البيعة إلا مرة كل سنة، وتندرج في سياق عقد غير مكتوب بين الملك والشعب، وهي فعل له دلالته الدينية، التي كان حزب العدالة والتنمية أشد المدافعين عنها، وله رمزيته الاجتماعية، وبالتالي فهي ليست مادة في الدستور حتى تكون موضوع تعديل، ولم يسبق لأي مغربي أصيل أن رأى فيها تجسيدا للعبودية أو حطا من الكرامة الإنسانية، إلا إذا كان يعتبر نفسه مجرد "ساكن" في هذه البلاد، وليس "مواطن"، لأنه يحلم بوطن آخرى.
وفي المغرب، لا تتعارض البيعة مع الحداثة والعصرنة، لأن الحداثة لا تعني التخلي عن الجلباب والشاشية، والعصرنة لا تعني استبدال الفرس بالسيارة، وليس في هذا الموروث ما يخدش صورة المغرب في الخارج، لأن الخارج نفسه يقف منبهرا أمام هذا التعاقد الذي لا يمكن تلخيصه في الانحناء والركوع، لأن الشعب الياباني نفسه، بكل ما بلغه من ديمقراطية وتقدم ينحي أمام امبراطوره أيضا من دون أن يجرؤ أحد اليابانيين على الانقصاص من المنحنين.
أما نضج الشعب فلا يعني أن يتقمص البعض دور الناطق الرسمي باسمه، وحين لا تجد كلماته الصدى يتهم هذا الشعب بعدم الوصول إلى نضج الشعوب العربية الأخرى، إلا إذا كان النضج هو الفوضى التي تعيشها اليمن وليبيا وسوريا أو الغموض الذي يكتنف مستقبل تونس ومصر.