هل كان من قبيل الصدفة أن تكون تونس التي انطلقت منها شرارة “الربيع العربي”، هي نفسها أول بلدان الثورات التي تظهر فيها فكرة اللجوء إلى الحكومة التقنقراطية للخروج من أزمة عجز الثورة عن إنتاج الثروة؟ قد تكون الثورة انتفضت هناك في وجه التقنقراطية حين رفضت الترويكا الحاكمة مقترح الوزير الأول السابق حمادي الجبالي تشكيل حكومة كفاءات، لكن الفكرة التقنقراطية ما تزال تتربص بالثورة والسياسة في كل الإقتصاديات التي تئن هذه الأيام تحت وطأة تضخم الشعارات وخصاص السيولة.
أجل، تبدو التقنقراطية منتشية بحالة العجز التي يعيشها السياسيون في مواجهة اقتصاد ينفلت بأرقامه ومعادلاته المفتقدة لهوامش المناورة، وتبدو اللحظة كما لو أنها فرصتها للانتقام واستعادة مواقعها بعد سنوات من الدفع بها نحو الهامش، بل وتحميلها مسؤولية التفاوت الصارخ بين النمو باعتباره فعلا اقتصاديا، والتنمية بما هي تجسيد اجتماعي للمؤشرات الماكرو اقتصادية.
طيلة سنوات خلت، ظلت التقنقراطية الوصفة السحرية للدولة في مواجهة خصاص مزمن في التمويلات، وظل التقنقراطيون يمارسون “السيادة نيابة عن الأمة” في مقت ظاهر للسياسيين، لكن الشهية التقنقراطية لم تشبع بالكامل، كانت تريد إلغاء الدعم العمومي، ووقف التوظيف في الإدارات وتقليص ميرزانيات التسيير، وباستمرار ما فتئت تضع خطوطا حمراء أمام أي رفع في الأجور أو مغامرة في ضبط معدلات العجز.
في زمن “الربيع العربي” اعتقدت السياسة أنها تستعيد سلطتها، تلك السلطة التي تلاشت أمام سطوة تقتقراطيين مدعومين بالمؤسسات المالية الدولية، لكن التقنقراطية وقد تجرعت هزيمتها النسبية، فوجئت بما حملته حكومات “الربيع العربي”، في مصر وتونس والمغرب… لا يفكر الساسة الجدد إلا في تحقيق حلمهم الكلاسيكي، وقف الدعم والتحكم الصارم في ميزانية الدولة إلى حدود التقشف.
إنها لمفارقة حقا، لقد انتزع الإسلاميون الثورة من الشارع، وها هي التقنقراطية تنتزع السياسة من الإسلاميين، وهكذا يبدو أننا عشنا ثورة نحو حكم الإسلاميين في السياسة السياسوية، وتحكم صندوق النقد الدولي في الإقتصاديات الوطنية!!