تناقلت خلال الأيام القليلة السابقة الكثير من وسائل الاعلام المغربية والدولية صورة السلوك الديمقراطي الحضاري الذي أقدم عليه الرئيس الكوري الجنوبي حين انحنى اعتذارا للمواطنين الكوريين على إثر تورط شقيق له في فضيحة فساد. قد لا تثير الانتباه هذه الانحناءة لكون البعض قد يدمجها ضمن تقاليد تبادل التحية في ذاك البلد كما هو الشأن بالنسبة للمواطنين المغاربة الذين لهم طريقتهم الخاصة في تبادل التحية بينهم. إلا أنه ما هو غريب عن المواطن المغربي فكونه لم يسبق له وأن تلقى اعتذارا لا من وزير أول (وفق التسمية السابقة) ولا من وزير ولا من رئيس حكومة (وفق التسمية الحالية) وبالتالي هل يمكن اعتبار المواطن المغربي أقل إنسانية من المواطن الكوري أو غيره؟ وهل المسؤولون الكوريون أكثر إحساسا بإنسانية وكرامة مواطنيهم أكثر من المسؤولين المغاربة؟ ألا يندرج هذا السلوك ضمن الرقي الأخلاقي للعلاقة القائمة بين المسؤولين كيفما كانت مراتبهم والمواطن المغربي ؟ ألا يشكل هذا السلوك الراقي جانبا من جوهر المفهوم الجديد للسلطة الذي ألح عليه عاهل البلاد؟ . هل يشكل الاعتذار لذا بعض أو جل المسؤولين في المغرب انتقاصا في شخصيتهم أو مساسا بها؟ ألا يعتقد هؤلاء المسؤولون أن الاعتذار قد يرقى بمكانتهم لذا المواطن المغربي وقد يعزز من مصداقية خطابهم لديه؟
فإذا كان مجرد الاعتذار، لكونه لن يكون بالضرورة مرادفا أو متلوا بالاستقالة وإنما عزيمة على تصحيح مسار معين، غائبا عن قاموس الأخلاقيات السياسية وخاصة في شقه المتعلق بالعلاقات العامة سواء الانسانية منها أو الوظيفية بين المواطن والمسؤول الذي ربما تناسى أنه في أصل الأمر هو مواطن، فهذا يعكس أمورا سلبية شتى يمكن تلخيصها في سمو البعض مقابل احتقار وتجاهل البعض الآخر. وإذا كانت الاستقالة تسبق أو تواكب الاعتذار في دول نقتبس منها ما يرضينا وننبذ دون ذلك، فالغريب أن مصطلح الاستقالة لا يتخذ في المغرب إلا طابعا إشهاريا أو تهديدا مع وقف التنفيذ.
2- إذا لم تكن هناك استقالة، فليست هناك محاسبة إذا ؟
- إذا غابت الاستقالة طوعا أو كرها عن المشهد السياسي والاقتصادي في المغرب، فهل سينعتها البعض بكونها إحدى الميزات المالوفة الخاصة بهذا البلد ؟ ستكون جرأة وقحة لمتبني هذا الزعم لكون المغرب، كوطن، بريء من شعوذات على هذا النحو. ذلك أنه لا يجب الخلط بين افعال البعض لتعميمه كميزة للمغرب، أعتقد ذلك. فالاستقالة إذا كانت طوعا فهي قرينة بنضج سياسي أحادي عميق ينبع من تراكم ثقافة سياسية ملتزمة محصنة بقناعة فكرية وإيديولوجية قويمة متعالية على الأنا ومنحنية تبجيلا لما هو أسمى وما هو في صلب الصالح العام. والاستقالة على هذا الوتر تكون نتيجة محاسبة للذات بالذات. محاسبة الفعل من طرف الفكر الذاتي.
كثيرا ما يتابع المواطن المغربي مثل هذا السلوك في مجتمعات مختلفة بما فيها المغرب، مع فرق جوهري يكمن في أنه من يستقيل في الدول المتقدمة الناضجة فعالياتها السياسية يكون مسؤولا فعليا وعمليا عن تدبير قطاع معين أي أنه يكون ضمن التشكيلة الحكومية المدبرة للشأن العام. فتتم استقالة المسؤول على إثر وقوع حدث غير صحي في القطاع الساهر على تدبيره محملا نفسه المسؤولية المباشرة عن وقوع الحدث "مبرئا" الموظف او العامل ومعللا استقالته الطوعية بعجزه عن ضبط تأطير اشتغال موظفيه أو عماله. وحادث السير الذي وقع في فرنسا والذي أدى بوزير النقل إلى تقديم استقالته لخير مثال على التحمل الفعلي الشخصي للمسؤولية غير مخفي ولا محصن لا من طرف حزبه ولا من طرف أية جهة كيف كان وزنها داخل المجتمع ليتم بعد ذلك استبداله بوزير أخر في غياب أية ضجة أو تأويلات حفاظا منه على سمعته ومكانة حزبه اتجاه المواطن وضمانا لعدم تعطيل العمل الحكومي.
- فأما بخصوص الاستقالة كرها فهي ليست بغريبة عن الدول المتقدمة ديمقراطيا حيث يهيمن الايمان بالتعالي عن التشبث بالمناصب إما فرادا أو حكومة برمتها. ولا تكون الاستقالة في هذه الحالة إحباطا بقدر ما تشكل منعطفا يمكن من المرور عبر مرحلة النقد الذاتي والتقويم ليتخذ سبيل "خطوة إلى الوراء تتلوها قفزات نحو الأمام". كما يتم الاعلان عن الاستقالة من خلال خطاب تعليلي واقعي سياسيا واقتصاديا واجتماعيا يعكس ضمنيا العراقيل الموضوعية التي حالت دون بلوغ الأهداف المعلن عليها عند بداية تقلد تدبير الشأن العام. كما أن نوعية العراقيل المعللة للاستقالة لا تستهدف لا معارضة ولا هي متبناة لأشياء ميتافيزيقية فاقت في لهجتها صيغة لغة الخشب. الغرابة كل الغرابة أن الاستقالة طوعا أو كرها ضمن الفعاليات الحكومية المغربية لا وجود لها إطلاقا ليبق التساؤل حول أبعاد هذه الخصوصية قائما دون الجرأة على إيجاد تفسير له.
3- هل تعتبر الاستقالة ارتباكا حزبيا أم ارتباكا حكوميا أم هما معا ؟
- لا هذا ولا ذاك لكون الاستقالة غير قائمة ولن تقوم أصلا إلا إذا اتخذت حلة شفاهية إشهارية لاثبات الذات وما هو بإثبات لكون الإثبات يكون بالأفعال وبالنتائج وبانسجام الوعود مع الواقع وما سوى ذلك يبق مجرد عبث في كل اتجاه. جل الفعاليات السياسية تشهد بتجسيد وتفعيل الديمقراطية داخل تنظيماتها وما هي بديمقراطية ولا حتى بقرين لها لكون الديمقراطية أصلا تنبنى على أساس التغيير. والواقع المغربي يعكس، سواء في المجال السياسي أو الاقتصادي، إبقاء التنظيمات السياسية والنقابية على حالها وما التغيير إلا في الواجهة أما الجوهر فلا مساس. ليس هناك أية ارتباك لكون الصراع حول تأهيل هذا الفاعل الحزبي أو ذاك يحسم حينما تفرز الاستحقاقات الانتخابية الأغلبية لحزب معين. ليشتد بعدها الصراع في اتجاه التقرب من أعلى هرم حزبي قصد الحصول على منصب المسؤولية الوزارية. فكيف إذا لمن صارع ليس من أجل خدمة المواطن المغربي ولكن لمجرد الحصول على منصب المسؤولية وما أدراك ما منصب بالنظر لما يتميز به من امتيازات "تجعل الأحلام حقيقة والمستحيل واقعا"، أن يستقيل؟ كم من مسؤول سواء حزبي أو غيره ثبتت في حقه سوء التدبير، سواء من خلال تقارير المجلس الأعلى للحسابات أومن خلال مجرد جرد لنتائج تدبيره لقطاع معين، ولا يزال آمنا مطمئنا في منصبه معللا ما يحصده قطاعه من نتائج سلبية لا دخل له بها وأنه ثمة أيادي خفية حزبية أو غيرها تسعى للإساءة إلى تدبيره وأن المعطيات التي يتوفر عليها هي مغايرة لما تم الاعلان عنه. علاوة على أن المسؤول تراه يصرح علانية بكون مسؤولون آخرون وجبت في حقهم الاستقالة ولم يجرؤا على تقديمها، فلم سيكون هو أولهم؟ أليس بعجيب هذا النوع من الخطاب ؟ العجب العجاب هو عندما تجد حزبا برمته مجندا مدافعا عن مسؤول تابع له مهما تبتت في حقه من اختلالات في التدبير. لن يكون إذا هناك أيتها ارتباك انطلاقا من مبدأ إذا عمت هانت.
- أما على الصعيد الحكومي، فسلوكيات الفرد، ممثلا لحزب معين، هي مماثلة لسلوكيات حزب ضمن ائتلاف حكومي إلى حد ما إلا ان التهديد بالاستقالة لو كان فعليا وسيتم تفعيله سيكون أشد وطأة سياسيا لتتحول الاستقالة الحزبية إلى أزمة سياسية يؤجل فيها تفعيل البرنامج التنموي للبلاد ومصالح المواطن المغربي إلى حين استواء الحقل السياسي على إيقاع توافقي جديد. إلا أن الأمر لن يسلك هذا السبيل لكون الفعاليات السياسية في المغرب وخصوصا منها تلك المشكلة للحكومة ألفت رياء الانسجام في ظل الاختلاف ليبقى الانسجام صوريا (كل محصن لعدد حقائبه الوزارية) وليتم فضح الفضائح والاختلافات والخروقات قبيل كل استحقاقات انتخابية موالية. فكل حزب سياسي من الأغلبية تجده حاليا منهمكا في تكديس أكثر ما يمكنه تكديسه من دلائل استعدادا لفضحها عند اللزوم. وما هذا السلوك إلا تجاهل الانكباب على معالجة هموم المواطن المغربي وإيداعها في الهامش المقبور.
- وعلى نفس الوتر وفي ظل أغرب حكومة مغربية شهدها المغرب نجد رئيس الحكومة تارة يصرح بالرحيل وتارة يصرح ب "لن أرحل" غير محدد للمخاطب ولا هو بمستقر على قرار!. هناك مثل مغربي يقول : " أنه من يدعي عزمه القيام بشيء، فإنه لا يجهر به وإذا جهر به فتأكد بأنه مجرد تضليل وما هو بفاعله " . فالمواطن الذي تزرع في ظنه الاستفزاز وعدم الاستقرار والتخويف من الغد بات على يقين أن الملفات التي فتحت حكومتكم إشهاريا لم يكن وزراءكم بقادرين على معالجتها واضطررتم إلى تبني خطاب التمويه بالرحيل لكونكم يا فخامة الرئيس سيأتي وقت سيحاسب فيه حزبكم من طرف خصوصا أولئك الذين آمنوا باطروحتكم ومآل هذه الملفات ولن يتقبل منكم حينها الخطاب الميتافيزيقي الذي تتبنوه والذي هو بعيد كل البعد عن الخطاب الموضوعي العقلاني والجاد الذي يتبنوه رؤساء حكومات الدول المتقدمة ذات الجرأة الخطابية والفعلية. وماذا لو استقالت أو كما يقال رحلت حكومة بنكيران، فلن تكون نهاية العالم كما يقال، ذلك أن المغرب كان متواجدا بملكه وشعبه قبل بنكيران وسيظل قائما حتى بعد رحيله. ربما يكون رحيل الحكومة تجسيدا لديمقراطية سياسية فعلية كما هو معمول بها من طرف حكومات الدول المتقدمة والناضجة فعالياتها سياسيا والموجهة انشغالاتها صوب معالجة مشاكل المواطنين عوض تشبثهم بعض أو جل مسؤولي تدبير الشأن العام في المغرب بكراسي المسؤولية وما هو بحب في مسؤولية تدبير مصالح المواطن المغربي وإنما هي تشبث بالمزايا غير الموضوعية وغير العقلانية التي تصادق عليها الحكومة لفائدة من تعهد إليه هذه المسؤولية. مزايا متناقضة مع جوهر الدستور ومتناقضة مع حساسية وصعوبة المرحلة التي يتم فيها تدبير السياسات العمومية ومتفوقة بامتياز على تلك التي تمنح لأولئك الذين يقدرون حق قدرها مسؤولية تدبير الشأن العام ومصلحة المواطنين في الدول المتقدمة ديمقراطيا.
4- ستكون المحاسبة وسيتلوها الرحيل إنها سنة الدستور الجديد.
إذا كان قد عبر جل المتتبعين لتدبير الشأن العمومي منذ نشأة هذه الحكومة عن كون مسارها سيشهد عدة تعثرات وبالتالي قد تعصف رياح حزب المصباح بمنتظرات المواطن المغربي، فقد اعتبر البعض الأخر أنه ربما قد اتخذت متطلبات المواطن المغربي الاقتصادية والاجتماعية كأرضية مشتركة لاشتغال كل الفعاليات المشاركة في الحكومة بعيدا عن التباينات السياسية السلبية خدمة للوطن وتعزيزا لميزة استثنائية تجربته مقارنة مع ما يجري إقليميا. إلا أن الأمر لم يتجه صوب هذا السبيل، سبيل تغليب ما هو اقتصادي-اجتماعي على ما هو سياسي، فعلاوة على الملفات التي فتحت دون معالجة ودون تعليل موضوعي لعدم إتمام معالجتها، انتهج وزراءكم منهجية عمل تتنافى والتركيبة الحكومية خصوصا وأنهم يحاولون بسط رؤيتهم الممزوجة بما هو عقائدي على جل الورشات وخصوصا محاولة حصر مجال الصحافة والتي هي في واقع الأمر ليست منبرا حكوميا في جلها بل منبرا شعبيا لا يمكن حصره وفق اتجاه واحد. وكذا القافلة التي تعتبر أساسا بدعة لكونها تجاهلت التعددية الفكرية وبالتالي لن تروق لباقي مكونات الحكومة الذين سيعتبرونها حملة انتخابية قبل الأوان ومحاولة لتعميم الفكر الوحيد. أضف إلى ذلك المحاولة الفاشلة منذ بدايتها لتأطير، وما هو بورش تأطيري بل انتقائي، لما أصبح يصطلح عليه بالمجتمع المدني (دستوريا) في زمن ربما لا يدري فيه الشوباني أن المجتمع المدني بات أكثر وزنا من أيتها حزب لكونه نشأ واستمد قوته بفعل تجاهل الأحزاب له وصد الأبواب أمام فعالياته.
لقد انقلبت الاية، ففي وقت ليس ببعيد كان فيه المجتمع المدني نكرة ولم يكن مطالبا سوى بالانضمام إلى الهيآة الحزبية والنقابية، باتت اليوم الأحزاب هي التي تسعى وراء استقطاب فعاليات المجتمع المدني لتعزيز صفوفها ووزنها. فورش الشوباني بخصوص المجتمع المدني هو شبيه بورش الخلفي مع الصحافة حتى بات هذا الورش ينعت ب" ورش الشوباني على خطى الخلفي".
5- خطورة معادلة " لن أرحل، لن أستقيل"
لم يكن من المنتظر أن يتلقى المواطن المغربي من رئيس حكومته جزاء خطابيا على نحو " لن أرحل " لكون أسلوب التحدي لا يتناغم والصيغة السلمية والحضارية التي سير على وتيرته الحراك الشعبي المغربي لدرجة أن العديد من الدول نعتته بالاستثنائي وخصوصا التفاعل بين ملك البلاد والشعب المغربي والذي أفضى إلى بلورة دستور بات المواطن المغربي ربما يشعر بكون الفعاليات السياسية الحكومية المعهد إليها تنزيل مقتضياته تنزيلا قويما لم تجد بعد السبيل القويم لذلك وبالتالي فقد صدق القول الأستاذ المنوني الذي أشرف على تنسيق أشغال هيأة تعديل الدستور حينما صرح بكون "ما يتضمنه دستور 2011 يعلو بكثير على ما طالبت به آنداك الهيآة السياسية". إنها بالفعل حقبة زمنية جديدة حين بات المواطن المغربي يفاجأ مرة تلو الأخرى بتصريحات بعض المسؤولين بكونهم " لن يرحلوا ولن يستقيلوا" لتتخذ هذه التصريحات شكل عدوى انتقلت من رئيس حكومة مرورا على بعض الوزراء والمدراء لتصل حتى إلى مدرب فريق وطني (...). لا حرج ولا جناح. ولكن وجبت الحيطة والحذر من انتقال العدوى إلى المواطن المغربي الذي سيعتبر هذا النوع من الخطاب تحديا ليصر المواطن على تقويم المعادلة بتبنيه لنفس المصطلحات والسلوكيات مصرا ومتبنيا نفس المصطلحات " لن أرحل ولن أستقيل" من الشارع لتكتمل عندها المعادلة الحبلى بالمخاطر على ما أرسى أسسه ملك البلاد وشعبه من استثناء.