هو "سر" يراد بنشره، أن يعرف المغاربة بأن السياسة في بلادهم، هي هي، لم يتغير فيها شيء منذ عقود...ولا تختلف في شيء ،عن المعهود سابقا، عن "تقاليد" العمل في الأنظمة العسكرية والديكتاتورية في أمريكا اللاتينية وفي محيطنا العربي والإفريقي، من كون كل الأحداث التي يعيشونها لها دائما "أسرار"، وتحاك وقائعها الحقيقة وقراراتها الأصلية بعيدا عن مؤسسات واجهات الدولة، ومواقع القرار الرسمية والعلنية... تحاك في "مغارات" أجهزة الدولة العميقة والأمنية أساسا...أحداث ووقائع ينفذها ويعلنها كومبارس (من حكومة وبرلمان وأحزاب ومؤسسات الوساطة الاجتماعية والحوارات الوطنية...)، و سرها الحقيقي أنها، تكون قد صيغت أو نسجت وتم التقرير فيها من طرف خلية خفية، مستترة أو متوارية، في غرفة عمليات الدولة،و تنتهي إليها خيوط نخب ومؤسسات الدولة والمجتمع وتحركها كما تشاء وتوجهها إلى ما تريد...و الإتحاد الإشتراكي عانى في التعاطي مع وقائعه و قضاياه كثيرا من تلك "الأسرار" التي تخص بها البعض "مصادر" مطلعة حول مزاعم تدبير "الداخلية" مثلا لمؤتمراته و لقراراته و لتوجهاته.
"الخبر" أضحى حدثا ولم يكن مجرد خبر... إنه صادر من "ثقافة الأسرار" التي لم تنفع في تبديدها كل مساعي نشر ثقافة المؤسسات التي تصدر عن جهد الإصلاح الديمقراطي للبلاد... وليس أن الدستور الجديد لم يغادر بعد معبر "العناية الفائقة" نحو التنزيل أو التفعيل الواقعي لمقتضياته... ولكن لأن إرادة كبح الترسيخ المؤسساتي للاختيار الديمقراطي لم تتعب، في تغذية ثقافة "المؤامرة والأسرار" لفائدة استمرار عدم ثقة المواطن في السياسة وأهلها من جهة الدولة كما من جهة المجتمع.
الحديث، عن وجود لجنة خاصة مكونة من شخصيات لم يعلن رسميا عن انشغالها بأمر الدستور، ولديها مهام أخرى في بنيان الدولة ومن بينها السيد ياسين المنصوري المدير العام للجهاز المكلف بتتبع وحماية أمن الدولة الخارجي، والسيد سعد حصار كاتب الدولة في الداخلية آنذاك... هذه اللجنة "يقال" بأنها اختصت بتوجيه اللجنة الرسمية بإعداد مسودة الدستور... يراد بهذا "الخبر" القول بأن كل عمل اللجنة الرسمية المعينة برئاسة الأستاذ المنوني، واجتهاداتها وجلسات استماعها، لكل من يفهم، وحتى لمن لا يفهم، في أمر الدستور شيئا، من أحزاب ونقابات وجمعيات...و إلى جانبها "الآلية السياسية" برآسة المستشار محمد المعتصم... كل ذلك الكد و الجهد، و حتى الهرج والمرج، وكل تلك الاجتماعات وكل تلك المناقشات و العشرات من المذكرات و الدراسات... كل ذلك لم يكن إلا مجرد "تعمار الشوارج" و يذهب جفاءا، أما ما "ينفع" الدولة فيمكث في لجنة "استراتيجية" ، غير معلنة، هي من يهندس معمار الدستور و حرصها الأول فيه هو صيانة صلاحيات الملك.
سيذكر معي القارئ بأن الجريدة نفسها هي من قال بعد خطاب جلالة الملك يوم 9 مارس سنة 2011 بأن "الملك أسقط النظام"... لأنه كان أول من أعلن عن الأفكار الموجهة للمراجعة الدستورية التي اقترحها، وكان ضمن تلك المواجهات تخليه عن عديد صلاحياته لفائدة تقوية دور البرلمان وتوسيع صلاحيات رئيس الحكومة... فما كانت الحاجة إلى لجنة سرية، وبها حساسية أمنية، للحرص على صلاحيات الملك من أن تبددها أو تضيعها أو تنتقص منها اللجنة الرسمية و الآلية السياسية، المشكلة من شخصيات ذات كفاءة علمية أو اهتمام سياسي أو خبرة حقوقية، ومكلفة "بتنزيل" موجهات خطاب 9 مارس ودسترة "إسقاط النظام" لنفسه.
قد لا تكون الجريدة التي نشرت "الخبر" تعي ما قصدته الجهة النافثة "للسر" من محاولة تدمير لمقوم أساس من مقومات الإصلاح السياسي، الذي انخرطت كل البلاد بكل فاعليها في تقعيده... إنه مقوم الثقة في المؤسسات... من بعيد وبجمل قصيرة يتم قصف كل منطلق هذا الإصلاح وغايته... وهو بناء مؤسسات واضحة الصلاحيات واضحة الحدود ، واضحة التفاعل المطلوب بينها، ومرجعها الدستور ولا جهة غير الدستور... حتى تكون مؤسسات مالكة لثقة الشعب ولثقة الفاعلين فيها وثقتهم في مآل عملهم فيها...
ألم ينبه جلالة الملك السيد بنكيران إلى ضرورة التقيد بالدستور، حين تغاضى رئيس الحكومة في أمر ما عن إحدى صلاحياته الدستورية...و قال السيد بنكيران بأنه اقترح اعتبار ذلك حدثا تاريخيا يستوجب الإحتفاء به.و في ذلك ليس درسا لرئيس الحكومة وحده، بل للمجتمع السياسي كله...قوة المؤسسات هي في الحرص على دورها في بنيان الدولة و على موقعها الإجتماعي، وفي تمسكها بصلاحياتها الدستورية و ممارستها لها ( الملكية، البرلمان، الحكومة، الأحزاب، هيئات حكامة الدولة، هيئات المجتمع المدني...)...ذلك المطلب هو ما كانت تلح عليه قوى النضال الديمقراطي على مدى عقود...و ذلك هو ما خطه جلالة الملك في مسعاه الإصلاحي منذ تحمله مسؤولية الحكم...المفهوم الجديد للسلطة، إصلاح الحقل الديني، إصلاح القضاء، قانون الأحزاب الجديد...وذلك قبل أن تسرع حركية شباب 20 فبراير المسار الإصلاحي، لتحدث النقلة النوعية بخطاب 9 مارس التاريخي.
ذلك القصف "الإخباري" مزدوج النيران...إشاعة "خبر" وجود لجنة "خاصة"، يبدد كل الكلام حول الحرص على مصداقية المؤسسات و على شفافية عملها و بالتالي يبطل مصداقية اللجنة الرسمية و كل مظاهر المشاركة في اعمالها...من جهة. و من جهة ثانية، حشر السيد ياسين المنصوري و السيد حصار فيها هو إضفاء لتوابل الإثارة "الإستراتيجية" و "الأمنية" عليها، لإبطال الإنتاج العادي، المدني والسياسي والديمقراطي للدستور...ذلك الإنتاج الذي يبحث له عن "شعرة" في عجينه تقرف منه، بعد أن وضع البلاد على مسار استثنائي من التطور على قاعدة الإستقرار و من داخل ديناميكية الإستمرار... و اختلاق تلك اللجنة، اليوم، يتجاوز حدود ترف "تأريخي" لأجواء و ظروف انتاج الدستور ... إخال الأمر، قابل لقراءته بمحاولة تكريس أن "جهة" ما على شاكلة تلك اللجنة لا بد وأن تكون مستمرة في توجيهها للعمل السياسي في البلاد، فوق المؤسسات أو على هامشها، وتدير الفاعلين كما لو أنهم في رقعة شطرنج، مع فارق أنها تعاملهم على أنهم مجرد بيادق...و ذلك لغم يزرع في الوضع السياسي جاهز للتفجير بقوة فاعل أو بفعل تدافع و تفاعل أحداث و مرامي.