"إن إلغاء الدين، من حيث هو سعادة وهمية للشعب، هو ما يتطلبه صنع سعادته الفعلية. إن تطلب تخلي الشعب عن الوهم حول وضعه هو تطلب التخلي عن وضع بحاجة إلى وهم. فنقد الدين هو بداية نقد وادي الدموع الذي يؤلف الدين هالته العليا."
كارل ماركس، نقد فلسفة الحق عند هيجل.
"في طريقنا إلى دولة القرآن، وفي خَطَوات دولة القرآن نحو مجد الإسلام، لا دليل لنا في المهمات، وفي تحديد الأهداف والغاية، إلا كتاب الله عز وجل كما طبقته سنة رسوله عليه من الله الصلاة والسلام، غيرنا يهدف من الثورات إلى تغيير بنيات المجتمع، وبناء اقتصاده، وإصلاح نظامه السياسي. ثم لا شيء بعد ذلك إلا هذه الثقافةُ الثوريةُ، والفنُّ الثوريُّ، وما يواكب الثورة من عنف، واستبدال طبقة بطبقة، ومادية اشتراكية بمادية رأسمالية، يشير القرآن إلى تغيير المجتمع، بنياتِه واقتصادِه وسياستِه، ويُشَرِّعُ لذلك شرائع، ويرسُم له منهاجا. لكن ذلك التغيير لا يدور حول نفسه، ولا ينتهي عند مقدماته، بل يدور حول الإنسان، ويخدُم غاية تحرير الإنسان من كل عبودية، ليدخل في العبودية لله عز وجل".
عبد السلام ياسين، إمامة الأمة.
إيرادنا لهذين النصين هنا غايته التدليل على نوع من المفارقة العميقة بين نمطين من العقل، نمط تخلص وتحرر من سلطة التراث الديني والرقابة اللاهوتية، وأصبح عقلا مرتبطا بالحاضر والمستقبل لذلك فهو في حركة تصاعدية تطورية، ركيزتها الجوهرية النقد المستمر. وبين نمط تحكمه حركة تراجعية ارتدادية محكومة بالتراث الديني والارتهان للمرجعية اللاهوتية الثابتة.
يبدو أن العقل الغربي أسس استمراريته الإنتاجية على قاعدة التطور والتقدم إلى الأمام، وحقق إنجازه الحضاري عبر نقد مرجعياته التراثية التي كانت تشكل سلطة استبدادية تقف حاجزا أمام تحرره، لقد قام بخطوة معرفية نقدية هائلة تمثلت في تفكيك البنى الفكرية التي كانت مسيطرة ومتحكمة في رؤيته وتمثله للعالم والكون والذات والآخر ... لقد تم نقد الأفلاطونية والمسيحية الميتافيزيقيا بشكل عام، وأقام قيما جديدة بعيداً كليا عن الفكر الديني. ودلل على عجز القيم السائدة وسلبيتها عبر الكشف عن آليات عملها عبر التاريخ.
لقد سلط معواله النقدي ليحطم الأسيجة الوهمية التي كانت تحجبه عن رؤية ذاته بكل شمولية، لا لكي يدخل نفسه في نسق دوغمائي جديد، بل ليلقي بالسلاسل بعيدا ويدشن ربيعا مستمرا. لقد نقد الدين وفكك عناصره لكي يدمر أوهام الإنسان، ليحقق وجودية تفكيرية حقيقية وفعالة، تجعله يحس بصفته الإنسانية ويخرج من قصور عقله وحاجته لمن يوجه اختياراته، إذ لا وجود لحقيقة متعالية متعارف عليها تلزمنا بالخضوع لها، وقف هذا العقل ليصرح بأن الإنسان أصبح راشدا وقادرا على تمييز الخير من الشر والجميل من القبيح، حرر إرادته الفردية وأصبح حرا، خرج من السجون الإيمانية الوهمية إلى رحابة التفكير العقلاني المنفتح، حطم أسطورة الحقيقة المتعالية عن الإدراك وخرج ليبحث عن حقيقته الوجودية وحقيقة العالم الذي يعيش فيه.
إن كل نظام يفرض رقابة ويرسم حدودا، ويضع قوانين تضمن له البقاء في وضعيته النظامية، ولذلك تجده مقيدا لحركة العقل، لأن العقل إذا خضع لمسار حركي فإنه يطرح الأسئلة ويثير الإشكالات ويشك في القوانين الثابتة. وهكذا فالسكون والجمود العقلي يضمن استمرارية النظام، وحركيته تخرق النظام وتهدمه وتنسل من نسقه البنيوي. هكذا يشتغل النظام السلطوي على المستوى الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، وكذلك على المستوى الثقافي الفكري الرمزي.
فكل الأنظمة كانت عقلا تزحزح من ثبوتيته ووضعيته التي سيجتها إكراهات متعددة ومتداخلة فحصل الانتقال من الخضوع إلى التمرد إلى محاولة بناء وتشكيل نسق سلطوي جديد بمسميات مغايرة، وليخرج من حالة العقل الخاضع للقهر السلطوي إلى العقل الذي يمارس الفعل السلطوي الرقابي، وهكذا تترابط وتتناسل الأفعال السلطوية.يبدو إذا أن التفكير في
أنماط اشتغال العقول على المستوى الذهني والفكري والفلسفي يقودنا إلى البحث عن الحدود التي يرسمها كل عقل لنشاطاته المعرفية، وتمثلاته الذهنية بخصوص العديد من القضايا الكبرى من قبيل: الدين/ الإيمان، التاريخ/التراث، الأنا/الذات والآخر/المغاير ،والمجتمع والكون...
وقد أشرنا بإيجاز إلى بعض ملامح العقل الغربي ونظرته إلى هذه القضايا، من خلال مقولة ماركس المركزية حول نقد الدين. وبقي أن نلمح إلى ملامح العقل الإسلامي المعاصر من خلال مقولة عبد السلام ياسين التي تلخص البنية العميقة المتحكمة في أصول تفكير هذا العقل.
يمثل الفكر الياسيني خطابا عن الدين بوصفه نظاما من العقائد الإيمانية والطقوس الشعائرية يقابل بالضرورة اللانظام أي الخروج من الإيمان وطقوسه، وهنا بالتحديد تتعقد محاولتنا التفسيرية لكيفية اشتغال هذا النظام لأنه مبني بالأساس على منطق إيماني تسليمي عاطفي، وليس على منطق شكي عقلاني، وهكذا فمناقشتنا مثلا للشيخ ياسين قد لا تؤدي إلى نتائج معينة فالاعتقادات عنده لن تتغير وسيلوح في وجهك بشعار الحقيقة الإيمانية الراسخة. ثم إذا انتقلنا من هذا المستوى إلى مستوى التفاعل في الحقل الاجتماعي والسياسي ستجده يطالب بالمراقبة السياسية الحازمة لإيمانياته المهددة عبر انخراطه في الفعل السياسي، فيصبح سياسيا يستعمل مقولات الدين والأخلاق المتسامية للحفاظ على سلطته الرمزية العليا. وهكذا تتجلى إحدى سمات عقليته وهي الاعتقاد بأن الحياة تدار بالعقائد الإيمانية، عكس العقل الآخر الذي يراهن على منجزاته المعرفية التي تجسدت في العلوم التطبيقية والإنسانية والاجتماعية. ويصبح الدين عنده مشرعا للمجتمع ومسيرا للإدارة والمؤسسات ومنتجا للنظريات الاقتصادية، أي أن الإسلام يحتوي الدين والدنيا والدولة.
◄ عبد السلام ياسين وتأسيس السلطة الرمزية العليا.
إن الحديث عن تأسيس السلطة الرمزية معناه البحث في وسائل وآليات بنائها عند الشيخ/النموذج التحليلي.
إن الخطاب الياسيني يشبه باقي الخطابات، إنه سلطوي يبني هيكليته و ترسيمته انطلاقا من الخلفية الدينية اللاهوتية التي تحتفي بالأبعاد السلطوية، والتي هيمنت على بنية المعرفة الإسلامية منذ تشكلها من مرجعية النص المقدس التي ترتكز على سلطة الإله الواحد.
وهو خطاب محكوم بغايتين متفاعلتين:
• إزاحة الخطابات المغايرة والمناقضة وتوصيفها بالمروق والخروج عن الطريق السوي. (حوار مع الفضلاء الديمقراطيين +رسالة الإسلام أو الطوفان + الإسلام والحداثة + الإسلام وتحدي الماركسية اللينينة...)
• محاولة ترسيخ خطابه الذي يشكل استمرارا للخطاب الموروث، ولكن بتغيرات طفيفة على مستوى التوصيف المفهومي، وربطه بالمرجع المقدس. وهكذا يضفي على خطابه البعد التقديسي التبجيلي السامي. (الإسلام بين الدعوة والدولة + المنهاج النبوي + إمامة الأمة + القرآن والنبوة + جماعة المسلمين ورابطتها ...).
إن عبارة "إسلاس القياد للولي المرشد" مثلا وعبارات كثيرة منتشرة في كتابات الشيخ تمثل ضمنيا أمرا سلطويا يجب الانقياد له والخضوع لسلطته، وهذا احتراما لتراتبية هرمية مقررة في كتابه "المنهاج النبوي"، والتي تماثل علاقة الله بالرسول وصحابته. فالشيخ له كل السلط : التفكير والتنظيم والتشريع، وهي سلط مشرعنة وتستمد قوتها من العلاقة الروحية والدموية التي تجمع الشيخ بآل الرسول.
إذا تقصينا كتاب " المنهاج النبوي" سنجد الشيخ خليفة الرسول له اتصال دائم بالله، وهكذا يكتسب قوة إلهامية غير محدودة تخول له أن يصبح فاعلا دينيا ذي وظيفة رسولية...
و السلطة العليا التي يستند إليها خطاب الشيخ ليست شيئا هلاميا تجريديا بل هي ممارسة عملية تهيمن على كل المريدين الأتباع، انطلاقا من اعتبارها تجربة تحاكي تجربة الرسول.
لذلك فالشيخ ـ كما يروي الأتباع ـ كان في بداية دعوته وحيدا ضد "الطغاة المارقين عن الدين"، ولم تكن إلا سلطة الإيمان التي يملكها انطلاقا من انتسابه التلقائي لرمز النبي ووظيفته الدعوية، وهكذا فهو يكرس حياته لخدمة الأهداف التي جاء من أجلها الرسول.
هذا الانتساب الرمزي وكل الحكايات التي تؤطر بداية الشيخ وتؤسس لبداية تجربته الدعوية تم ربطها مباشرة بتجربة الرسول، وعبرها اكتسبت سلطة وقوة جعلتها مترسخة في أذهان المريدين، ومحفزة طاعتهم للشيخ ومقوية مصداقيته عندهم. فالشيخ في بداية الطريق والتحول أحس بالفراغ الروحي والقلق الوجودي (الحاجة إلى التحنث)، وبدأت تجربة البحث عن الخلاص حتى انفتحت له الأبواب، وكانت الزاوية البودشيشة (فضاء التحنث) ممثلة في شيخها الحاج العباس هي الوسيط الذي ربطه بالسماء ...
إن عملية ربط تجربة الشيخ بتجربة الرسول جعلت المريدين يعتقدون أن كل ما تعرض له الشيخ(المحنة) على مدار مسيرته لتشكيل الجماعة هو مبادرة آتية من الله الذي اختاره ليكمل مهمة الرسول الأول، لذلك فهم يصفونه بالمجدد.
إن ما أشرنا إليه الآن هو بمثابة حزمة من الاعتقادات التي تهيمن على الأتباع، وتشكل قوتهم الروحية التي تحافظ على تماسكهم داخل الجماعة، إنها تمثل وجوديتهم القيمية ووعيهم المستمر، والتي تجعلهم في قابلية دائمة للتصديق والإيمان بالخوارق والرؤى والمشاهدات...
*باحث في قضايا الخطاب الديني.