الاحتجاجات المؤسفة التي يمر بها المغرب الآن، لم تكن وليدة المصادفة، وليس الدافع إليها مجرد أوضاع اجتماعية يشتكي منها الناس قُوبلت بالإهمال من طرف المسؤولين، فلم يجد الناس بدا من التظاهر، لأنه من المستحيل أن يؤدي هذا الوضع إلى التطورات الحاصلة على أرض الواقع، فلا أحد يمكن أن يقبل بأن تُمارس المطالبة بالحقوق والإصلاح على نحو معكوس، وخارج جوهر المطالب، وإلا فقدت تلك المطالب مشروعيتها.
ولعل من يحلل مسار الأحداث في الشارع المغربي، يستطيع أن يرى المشهد التالي: فئة شعبية قادت مظاهرات وحشوداً تطالب بالتغيير والإصلاح، والقضاء على الرشوة والفساد، والعمل على إعادة توزيع الثروة الوطنية بشكل عادل، بهدف الدفع باتجاه التنمية الوطنية التي تؤدي إلى تحسين معيشة الفرد والمجتمع، ولها الحق فيما تطالب به. وفئة تدفع بالبسطاء من الفئة السابقة باتجاه تصعيد المظاهرات في محاولة لإخراجها عن سياقها الطبيعي لغايات لا علاقة لها بأي نوع من أنواع التغيير والإصلاح، وباتت تهتف (الشعب يريد الحرية ـ الشعب يريد إسقاط النظام) وهذه الفئة تعتبر محركاً هداماً لا يريد من التظاهر سوى إثارة غريزة القطيع لدى البسطاء من الناس، ودفعهم باتجاه الفوضى وخلط الأوراق.
واللافت عند هذه الفئة أنها تطالب بالحرية، دون أن تعي أن أحد أهم مقتضيات الحرية هي الديموقراطية، وهذه الفئة مارست دوراً لم يكلفها به أحد، فإذا كانت هذه الفئة ضد النظام، فهذا أمر طبيعي إذ ليس هناك نظام سياسي في العالم يتمتع بالتأييد المطلق، لكنه من غير الطبيعي أن تنادي باسم (الشعب يريد) من دون يكلفها الشعب بذلك، وهي تصادر حريته من خلال التحدث باسمه.
ولا أتصور أن عاقلاً من الشعب يمكن أن يطالب بإسقاط النظام، فسقوط النظام يعني تدمير الدولة والمؤسسات والاقتصاد، وهذا ليس من مصلحة أحد ـ على ما أتصور ـ سوى الذين ينادون بذلك، ولا يوجد عاقل يرغب بلعب هذا الدور والعودة بالبلاد إلى الوراء لأكثر من مائة عام، لكون التدمير يحتاج لإعادة البناء، وإعادة البناء تحتاج إلى أعوام طوال، وكان على الذين ينادون (الشعب يريد) دون تكليف الشعب لهم، أن يكتفوا بالتعبير عن أنفسهم فقط وينادوا (نحن نريد)، أما أن يتحدثوا باسم الشعب جميعه، فهذا ليس من حقهم.
وإذا ما استمرت حالة خلط الأوراق وعدم التفريق بين التظاهر المطلبي والتظاهر التخريبي، سيؤدي ذلك، في نهاية المطاف، إلى فوضى عارمة، مما يجعل المغاربة في حالة لا يحسدون عليها، حالة لا يريد الوقوع فيها من تظاهر من الناس من أجل مطالب اجتماعية واضحة، حيث أن الغاية من التظاهر كانت هي الإصلاح.
ولعل المتتبع للتفاصيل يلاحظ ما يُرتكب من أخطاء في الشارع المغربي جرّاء تعمد خلط الأوراق، فعلى سبيل المثال لا الحصر: من غير الطبيعي المطالبة بالرخاء الاقتصادي وفي نفس الوقت شلّ حركة القطارات، وقطع الطريق العام، واحتلال مقر حزب، وإحراق وإتلاف الممتلكات العامة التي هي ملك لجميع المغاربة.
ويبدو أن كثيراً من الممارسات التخريبية تسعى في مضمونها قصدا أم عمداً إلى إسقاط هبة الدولة، وهو الأمر الذي لا ينبغي لأي مغربي أن يقبله بأي صيغة.
لست مع السلطة إطلاقاً، ولا مع فوضى الشارع، فأنا شديد الانتماء لبلادي وعقلي و حريتي، لم أر المغرب يوماً إلا بيتي، ولم أر أهله إلا أهلي، ما يجري الآن يدمي القلب، ويخلق الرعب على مصير البلاد والعباد.
يجب ألا نتنكر للحقيقة، ففي الخصوصية المغربية أود التأكيد أن الشعب المغربي يكاد يجمع حول الخيارات الاستراتيجية الكبرى في السياسة الخارجية، ويكاد يجمع أيضاً على أننا فشلنا حتى الآن في حربنا على قوى الفساد والإفساد. لكن هذه الحقيقة ليست نهاية التاريخ. والفساد كالإرهاب لا يمكن مواجهته وإسقاطه بسياسات أمنية أو قرارات فوقية، لا يمكن القضاء عليه إلا بتدمير حاضنته الاجتماعية وذلك لا يمكن أن يتم إلا بإرادة شعبية حرة جريئة ومحمية تحت سقف القانون والنظام العام.
الفاسدون أقلية، واستئصالهم لا يقتضي تدمير البلاد، ولا ممارسة كل هذا الخراب.
لقد بدأت السلطة خطوات كبرى باتجاه الإصلاح وعلى الآخرين أن يتلقفوها في منتصف الطريق لأن الإصلاح مسؤولية الجميع، علينا أن نعمل بهدف أن نتجاوز جميعاً هذه المرحلة الانتقالية بأمن وسلام واستقرار دون أن نقتل عصفوراً أو نسحق وردة أو ننزع ولو حتى حجر من رصيف في أي موقع من بلادنا.
فالمغرب اليوم بحاجة إلى حل سياسي واجتماعي وحسم يؤدي إلى عودة الهدوء ومنع انتشار الفوضى، وليس إلى ما يؤدي إلى المجهول وتلك غاية البعض.
وإن ما يجري اليوم هو خلط متعمد بين حق التظاهر وبين تحويل الفوضى إلى حق في ذهن البسطاء، من خلال التلاعب بالألفاظ، واستغلال الإعلام، وعلى المغاربة أن يفرقوا بين الاثنين، وأن يحكّموا عقولهم ويدركوا أن الفوضى لن تؤدي في نهاية المطاف إلا لمزيد من الفوضى، وسيدفع ثمن ذلك جميع المغاربة على مختلف مشاربهم وانتماءاتهم واتجاهاتهم السياسية.
فالإصلاحات المطلوب اعتمادها والإسراع فيها هي السياسات المبنية على اقتصاد التنمية الاجتماعية الذي ينمي المغرب في كافة المجالات، ويوفر فرص العمل، ويحقق الأمن الغذائي، والعدالة في توزيع الدخل، ويحمي الطبقات الشعبية من أن تستباح في لقمة عيشها، وحقها في أن تنعم بحياة كريمة تجعلها أكثر تمسكاً بثوابتها الوطنية.
ويبدو من الواضح أن الإصلاحات التي يسير فيها الملك محمد السادس تنسجم مع تطلعات الشعب، وتحصن مواقف المغرب، فخطاب العرش وضع خريطة طريق للدولة والمجتمع، وجعل نجاح الإصلاح السياسي رهين بمعالجة حقيقية للتحديات الاجتماعية والاقتصادية وفق تعاقد اجتماعي واقتصادي تضامني جديد، يعززه مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة باعتباره قاعدة لها سموها الدستوري. ولعل العودة إلى الهدوء وإعطاء فرصة للدولة من أجل ممارسة فعل الإصلاح المنشود الذي دشنه الدستور الجديد، هو عين العقل، فالساحات العامة لن تهرب من أماكنها، والشارع ليس بساطاً يسحب من تحت أقدام المتظاهرين.