تدل شواهد كثيرة على أن المغرب بات يشكل استثناء في بحر «الربيع العربي» المضطرب. ولقد قيل الكثير وكتب أكثر عن الأسباب التي أبقت الرباط بمنأى عن لهيب الحراك الشعبي الذي انطلق من تونس، وطوى في مصر آخر صفحة من كتاب «ثورة» أو «انقلاب يوليو»، وطوح في ليبيا بأوتاد خيمة العقيد معمر القذافي، ووضع في اليمن حدا لجمهورية علي عبد الله صالح، وما زال يضطرم، ولو بتكلفة إنسانية باهظة، في سوريا للخلاص من حكم أصبح نشازا في عصر التحولات السياسية.
لماذا نجا المغرب؟ الجواب باختصار «فتِّش عن القيادة».. فهنا نحن مع حالة تسودها رؤية واضحة وإرادة شجاعة والتزام بالإصغاء لنبض الشعب.
حين خرج «شباب 20 فبراير» إلى شوارع المغرب مطالبين بالإصلاح، لم يتجاهل العاهل المغربي الشاب مطالبهم، ولم يصفهم بـ«الجرذان»، ولم يسألهم: «من أنتم؟».. والأهم من كل هذا أن قوى حفظ الأمن لم تطلق رصاصة واحدة؛ بل توجه الملك إلى الأمة بخطاب تاريخي يوم 9 مارس (آذار) 2011، الذي مرت عليه قبل يومين سنتان، معلنا إدراكه العميق «جسامة التحديات ومشروعية التطلعات وضرورة تحصين المكتسبات وتقويم الاختلالات». وترجم هذا الإدراك القائل بضرورة التفاعل مع الشعب في التزام راسخ بإعطاء دفعة قوية لديناميكية إصلاح عميق، يتجسد جوهره في تشييد منظومة دستورية ديمقراطية جديدة قوامها فصل أوضح وأدق للسلطات، وتخويل الحكومة صلاحيات واختصاصات واسعة. وحقا، هكذا، انطلقت الخطوة الأولى في رحلة الألف ميل نحو «الاستثناء المغربي».
ما وقع في تونس ومصر وليبيا واليمن من تطورات دراماتيكية كان المحصلة الطبيعية لقصور في الرؤية السياسية لدى قيادات تلك الدول، وابتعادها عن الشعب في لحظة وجوب الاندماج معه. وبالتالي، وجدت تلك القيادات نفسها مجبرة على النزول من قطار الحكم من دون تذكرة إياب. بيد أن ثالثة الأثافي التي طالت «الربيع العربي» تكمن في أن القيادات المطاح بها لم تعوض حتى الآن بقيادات قادرة على النأي بالنفس عن براثن الانغلاق وحب السيطرة وتجنب أخطاء الماضي التي عانت منها أيضا.
إن ثمة أمرين مهمين في المغرب لا يجوز إغفالهما: الأول، أن الملك محمد السادس يتمتع بشرعية متوارثة وسند شعبي لا جدال فيه. والثاني، أن العاهل سن «سياسة القرب» بمجرد توليه حكم البلاد صيف 1999، بدليل أنه لا توجد نقطة نائية في المغرب العميق إلا زارها حرصا على الاتصال بالناس والاطلاع على أحوالهم ومعرفة مكامن الأعطاب في البلد.. بل إنه، كما يقول مقربون منه، لم يخفِ يوما أمام مساعديه أن أمنيته أن يأتي يوم يعبر فيه مواطن أوروبي مضيق جبل طارق نحو المغرب، ولا يجد فارقا بين ضفتي المتوسط الشمالية والجنوبية.
لقد اهتم ملك المغرب بـ«الجذور»، وهو تعبير مجازي اعتمده الراحل روبرت مكنمارا، مدير البنك الدولي ووزير الدفاع الأميركي الأسبق، ومفاده أن التنمية ينبغي أن لا تظل أسيرة رؤية الخبراء والتكنوقراط. وهذا ما يطبقه الملك محمد السادس على أرض الواقع. وعندما حل موعد 9 مارس كان العاهل المغربي مزودا بخارطة طريق واضحة المعالم، مما جنب بلاده الاكتواء بلهيب ظرف اختلطت فيه كل الفصول.
هنا يكمن عمق خطاب «9 مارس» الذي أسس لمنهجية حكم تستوعب مقاصد «جذور» مكنمارا في التنمية والحرية والديمقراطية، وتروم تفعيل ما اتسم به المغرب عبر التاريخ من تعايش مع الآخر.
الشرق الاوسط.