يقول المثل المغربي: " قطرة قطرة تيحمل الواد"، ويقول المثل الفرنسي: " باريس لم تُبن في يوم واحد"...وبقدر ما تصدق هذه الحكمة على الوديان والمدن، تصدق أيضا على الأمم والشعوب والدول، لأن هناك صيرورة تحكم منطق الحياة، ولأن هناك مستجدات تفرض، بين الحين والآخر، القيام بعملية أو عمليات مراجعة وإعادة النظر.
وحين أصدر المجلس الوطني لحقوق الإنسان تقريرا يطالب فيه رئيس المجلس بحظر محاكمة المدنيين أمام المحاكم العسكرية، وصدر تنويه ملكي بهذا التقرير، فلم يكن ذلك تحت ضغط أو إكراه، وإنما لأن الشروط الموضوعية تراكمت من أجل اتخاذ هذا القرار.
في النظام القضائي المغربي، كانت هناك ثلاث أنواع من المحاكم الاستثنائية: محكمة العدل الخاصة، المحكمة العليا للوزراء، والمحكمة العسكرية.
وقبل سنوات تم إلغاء محكمة العدل الخاصة، التي كان يتابع أمامها الموظفون المتهمون في قضايا اختلاس أو تبديد المال العام أو الارتشاء، والذين أصبحوا يمثلون أمام الغرف المالية بمحاكم الاستئناف، لأن المشرّع ارتأى ضرورة إلغاء هذه المحكمة الاستثنائية التي لم يعد وجودها يتماشى مع درجة النضج القضائي التي بلغتها البلاد، أو يساير مستوى الحرص على صيانة حقوق الإنسان، والدفع في اتجاه ترسيخ مبدأ المحاكمة العادلة.
كما ألغى دستور فاتح يوليوز 2011 المحكمة العليا للوزراء، وجعل محاكمتهم، في حالة تورطهم في قضايا جنحية أو جنائية، تجري أمام المحاكم العادية التي يُحاكم أمامها المواطنون.
اليوم هناك توجه لإعادة النظر في المحكمة العسكرية، وهي محكمة لا يرتبط النقاش حول مراجعة اختصاصاتها بمحاكمة مجرمي"أكديم إزيك" الذين ليسوا معتقلي رأي بل قتلة ومجرمون أزهقوا أرواح 11فردا من القوات العمومية، والذين لا تزال أسرهم المكلومة تكتوي بلهيب الفراق، المتصاعد من جمرة الحقد، التي جعلت مجرما يتبول على جثة دركي أو يذبح أحد أفراد القوات المساعدة في لحظة الاحتضار، بل هو نقاش انطلق منذ محاكمة بعض الضباط الذي أخلوا بقواعد الانضباط العسكري سواء بتسريب معلومات أو إبداء رأي...
إنه نقاش يعود، على الأقل، إلى بداية الألفية الثلاثة مع انفجار قضية الضابط محمد أديب... وبالتالي فإن تقرير المجلس الوطني لحقوق الإنسان هو تتويج لمسار هذا النقاش الذي استغرق أكثر من عقد من الزمن، وليس تقريرا " تحت الطلب" لترضية خوان مانديز أو جمرة تريد البلاد التخلص منها بإلقائها بجنيف، وإنما شمعة تريد أن تضيء بها ركنا في غرفة الحقوق الإنسان.
إدريس شكري.