هناك أشكال من التطرف أصبحت شبه مقبولة وشبه متوقعة. قد تغضبنا. قد تقلقنا. قد تجعلنا نخرج من هدوئنا الحقيقي أو المفتعل… لكنها في النهاية متوقعة. منتظرة. حتى أننا قد نتفهم أسبابها ونحاول مناقشتها. بالمقابل، هناك أشكال من التطرف تصدمنا، لأنها تأتي ممن لا نتوقع منهم ذلك.
منذ بضعة أسابيع، انتفض مناضل يساري ضدا على عرض فيلم "علي، ربيعة والآخرون"، للمخرج أحمد بولان في تظاهرة ثقافية. المناضل المذكور اعتبر أن الفيلم يهين نضال شباب السبعينيات ويصورهم كمتسكعين، حشاشين، مدمنين وعاهرات…
أولا، ولكي نكون صرحاء مع ذواتنا، فالفيلم لم يخترع واقعا بعيدا عن حقيقة تلك الفترة من تاريخ المغرب. عدد من الشباب كانوا يمارسون حرياتٍ لم تكن بالضرورة مقبولة مجتمعيا آنذاك، وكانوا يعتبرون ذلك جزءا من حقهم في الاختلاف؛ في تناسق مع قناعاتهم ومع أفكارهم. بل أن الكثيرين يعتبرون أنّ المغرب خسر اليوم ذلك الحد الأدنى من الحريات، الذي كان متوفرا في السبعينيات والذي صرنا نفتقده اليوم مع تزايد تأثير المد المحافظ.
إلى جانب ذلك، فالأسباب التي دفعت هذا المناضل اليساري إلى الانتفاض تدعو، في حد ذاتها، إلى التساؤل. الموقف، الذي أعلن عنه صاحبه بشكل علني ورسمي، صادم بالفعل. كيف يعقل أن شخصا ناضل لسنوات طويلة من أجل إقرار مجموعة من الحريات، من بينها حرية التعبير، يصبح اليوم أول من يصادر حق الآخر، المختلف، في التعبير عن نفسه وعن رأيه؟ هل الحريات مطلبٌ نناضل من أجله، وقد نموت في سبيل ذلك ونُعتقل ونُعذّب، لكنها تصبح فجأة مزعجة حين تقدم طرحا لا يناسبنا، أو ينتقدنا؟ ثم، لنجرأ على طرح سؤال آخر: منذ متى كان اليساريون مقدسين؟ منذ متى كانت الحرية هي أن تدافع عن حقوق وحريات تؤمن بها، وأن ترفض لشخص آخر التعبير عن تصوره للأمور، لمجرد أنه يختلف معك في الطرح؟ أي نعم، فبفضل اليسار المغربي، بكل أطيافه، تحققت بالفعل أشياء كثيرة في هذا البلد الأمين. لكنه، كأي تيار سياسي آخر، غير منزه، راكم نصيبه من الأخطاء (وما يزال)، تعرض لانتقادات مشروعة وأخرى لا… باختصار، فهو لم ولن يكون مقدسا ولا فوق الانتقادات.
كما نقولها للإسلاميين وللمتخونجين ولدعاة الفن النظيف: الحرية في الإبداع مطلقة ولا يمكن أن تتجزأ؛ وإلا، فسيكون علينا غدا أن نضع لائحة باسم المواضيع والحوارات التي لا يجب التطرق لها في الفن. ستكون هناك لوائح تشمل الخطوط الحمراء الإسلامية، اليسارية، الأمازيغية، اليهودية، الصحراوية، الريفية… وهلم جرا. كلما انزعجت فئة ما من التصور الذي قدمه عنها فيلم ما، ستطالب بانضمامها إلى لائحة القيم المقدسة.
لا أيها الأعزاء والعزيزات. حين يقدم مبدع ما عمله، فقد يستلهم طرحه من أحداث واقعية تهم التاريخ أو المجتمع بتحولاته، لكنه ليس ولن يكون مؤرخا ولا باحثا. الأفلام السينمائية المستلهمة من أحداث واقعية لا تُشكل حقائق علمية ثابتة عن فترة ما، بقدر ما تترجم تصور صاحبها للأحداث وللشخصيات. فوق كل هذا، فالمبدع (المخرج، السيناريست، الروائي…) يختار بالضرورة زاوية طرح معين قد لا تركز إلا على جزء من التيمة أو الحدث. لا يمكن أن نطلب منه أن يحترم الأحداث والشخصيات والتواريخ، وإلا، فنحن نقيد إبداعه كما قد تُقيده معايير أخلاقية أخرى، بدعوى الفن النظيف.
إلى متى سنطالب العمل الإبداعي بأن يؤرخ للتاريخ بإخلاص، وبأن يحترم الأخلاق والهوية، وبأن لا يستعمل كلام الشارع وبأن يمنع الحب والقبل وبأن…. وبأن…؟ الفيلم السينمائي هو في النهاية عمل فني وحدها المعايير الفنية يجب أن تكون محور وأداة تقييمه. قد يساهم في كتابة الذاكرة الجماعية. قد نحبه وقد لا نحبه، قد يحركنا إنسانيا وقد لا يفعل. لكننا لا نستطيع أن نقيمه اعتمادا على معايير بعيدة عن الفن وعن الصناعة السينمائية.
ثم، لنقلها صراحة: لقد تعبنا من المقدسات الكلاسيكية التي نحارب كل يوم من أجل تجاوزها… لا يمكننا اليوم أن نؤسس لمقدسات إضافية تبني لنا حدودا جديدة للحرية في التعبير. ليس من حقنا أن نساهم، بل أن نطالب بهذه العودة الخطيرة إلى الوراء، بذريعة الحفاظ على نقاء مزيف لفترة عرفت نضالاتها وأخطاءها وحرياتها وجنونها وتأثيرها الحقيقي على تاريخنا المعاصر… لكنها ليست فوق الطرح ولا فوق الانتقاد.