قرأت تغطية في موقع إلكتروني مغربي لجلسة محاكمة المعتقلين في كديم إيزيك، وقرأت عبارة “القوات المغربية الغاشمة” عشرات المرات محاولا التأكد أن الموقع المغربي قد نقل هاته العبارة على لسان ناشطة صحراوية. بحثت عن المزدوجتين، ووجدتهما بالفعل، وتأكدت أن الأمر يتعلق بكلام منقول على لسان متحدثة أخرى غير صحافي الموقع الذي أنجز التغطية والقاعدة تعلمنا أن “ناقل الكفر ليس بكافر”، ومع ذلك أزعجني أمر ما في الموضوع كله.
ليس من حقي أن أتدخل في عمل الزملاء في المنبر المعني، ولست في موقع من يستطيع إعطاء الموقع أي درس مهني من أي نوع كان. هم الآن أول موقع في المغرب من ناحية التصفح، وقد علمتني الحرفة التي امتهنتها منذ حوالي الخمسة عشر سنة أن أحترم من يمنحه الناس ثقتهم، وإن بدت لي الثقة في غير محلها، لكنني بالمقابل أستطيع أن أعبر عن انزعاجي من كلمة “الغاشمة”، ومن فيض المهنية المبالغ فيها التي تمت بها التغطية، وكذا من قدرة بعضنا اليوم على التسلح بهاته المهنية فقذ في وجه وطنه.
لسنا في عهد الستالينية _أقول لنفسي_ وليس من حقنا أن نجبر أحدا على الاقتناع بأمر هو غير مقتنع به، وليس من حقنا أن نطالب الكل بترديد نفس الكلام عن قضية وحدتنا الترابية، بل لسنا ملزمين بأن نقتنع جميعا أن هاته الوحدة الترابية تستحق قليل أو كثير العناء من أجلها، ولسنا كذلك ملزمين بالاعتراف أن حربا إعلامية شعواء عوضت الحرب على الميدان وأن مخابرات الجزائر تبذل الغالي والنفيس من أجل الانتصار في هاته الحرب.
لسنا أيضا مجبرين على أن نكون صوتا واحدا في هاته المعركة _أقول لنفسي_ من الممكن أن نفتح للاختلاف المجال لكي يقول بعضنا إنه مقتنع بأن من حق البوليساريو أن تصبح دولة في جنوب المغرب، ومن حق البعض الثاني أن ينادي بتقرير كل مصائر الكون، وليس مصير الشعب الصحراوي وحده، مع أنني لا أفهم معنى عبارة الشعب الصحراوي. لا إمكانية لدينا أيضا اليوم لكي نقفل كل المواقع الإلكترونية التي قد تكتب شيئا لا يروق لنا. الديمقراطية تقتضي سماع كل شيء وقبول كل شيء، وأحيانا التضحية بكل شيء.
اللعبة كلها أصبحت بهذا الشكل، وأحيانا قد تصبح الخيانة رأيا، مع أنني لا أستطيع أن أخون أحدا كيفما كان نوعه لأنني لا حق لي في ذلك على الإطلاق. ومع أنني أعرف أن الأمر ممنوع في إسبانيا وممنوع في فرنسا، وهما أكثر ديمقراطية وحرية منا، وأن التنويه بانفصاليي الباسك في الدولتين قد يؤدي بصاحبه إلى كثير من الهلاك إعلاميا وسياسيا، وفي كل الجوانب إلا أنني لا أستطيع قول أي شيء. فقط أتأمل حالة الهوان التي وصلنا إليها وقد أصبحت المهنة مرادفة لكل أنواع الهذيان الممكن تصورها.
ألوم نفسي مرة أخرى على التدخل في أمور لا تعنيني. من أنا لكي أعبر عن انزعاجي من وصف القوات العمومية المغربية بالغاشمة في موقع مغربي؟
لا أحد, ولا حق لي في ذلك على الإطلاق. الحرية الصحفية مثلما تفترضها وزارة الاتصال التي تصنع الصحافة الإلكترونية هاته الأيام تقضي بأن تكون لدينا جميعا حرية النيل من الوطن، وحرية لعب الأدوار المختلفة وإن بغباء، وإن ببلادة، لأنني متأكد مائة في المائة أن الصحافي المذكور لم يتلق مقابل غبائه ملاليم أو قروشا من أي مكان. إن هي إلا المهنية المبالغ فيها والسلام.
طيب، ما الحل؟ في الحقيقة لاداعي لطرح السؤال، فليس هناك أي إشكال في الموضوع. “آش فيها كاع يلا وصف صحافي على لسان ناشطة قوات المغرب بأنها غاشمة في عز معركة سياسية وإعلامية مع أعداء وحدة الوطن؟”. “ما فيها والو”، تقول الإجابة البديهية، بل أكثر من ذلك الأمر علامة ازدهار حريات في البلد، ونتمنى جميعا أن تقرأ “أمنيستي” و”فريدوم هاوس” و”هيومان رايتس ووتش” و”إر إس إف” وغيرها من المنظمات التي تشغل بالها بنا أكثر مما تهتم بحال دولها الأصلية هذا الكلام وأن تضيف لنا نقطة في ترتيباتها الشهيرة لكي نحس ببعض الأمان والاطمئنان، ولكي نقول لأنفسنا إننا سائرون على الدرب وواصلون، ومواصلون.
ومع ذلك ثمة أمر ما يزعجني. لعله دم سال منذ سنوات قديمة من أجل هاته الصحراء العجيبة. لعله يتم أحس به صغير أو صغيرة فقدا أبا في لحظة من اللحظات من أجل ما قيل لهم حينها إنه الوطن. لعله فقد كبير وتضحيات جسام، وشعب لم ير من رغد العيش شيئا من أجل هاته الصحراء، لكي يأتي علينا يوم نسمع فيه صحافتنا تصف قواتنا بأنها غاشمة.
أعترف أنني “لا أقشع” شيئا في كل هاته الحرية، وفي كل هذا الهراء. أعترف أنني حين الوطن أصيب بكل أنواع الغباء.
هادا ما كان وسمحو لينا على كل حال.