ذ. المريزق المصطفى*
لقد أحدثت و لادة الحركة الاسلامية، منذ بداية القرن الماضي، انعطافا جديدا في تاريخ الجدل الثلاثي الدائر بين "الدين/العنف/السياسة" خاصة في العقود الاخيرة من زمننا الماضي القريب، و الذي تميز فيه العديد من الدول العربية بممارسات ارهابية و عنف شديد. حيث تحولت أحلام و طموحات الشعوب من حلم الاستقلال و الديمقراطية و الحرية و المساواة الى كابوس يغديه التعصب القبلى و الديني.
ومن دون الرجوع الى الاصول الفكرية و التوجهات "الهيجلية" و "الماركسية" ومن دون استحضار روح نصوص ابن رشد و كانط و فيورباخ و برونو و غيرهم، للتذكير بالمراحل التي قطعتها الظاهرة الدينية في سياق علاقات اجتماعية و تاريخية مختلفة، فان البحث في العلاقة الجدلية بين الدين و السياسة تبقى الى يومنا هذا ضرورة تاريخية لفهم مسارات التصادم و التعايش بينهما.
ان ما حدث و يحدث اليوم في العالم العربي و الاسلامي من عنف في حق فئات و شرائح اجتماعية مختلفة، و ضد شخصيات قادمة من حضارات و مرجعيات فكرية او ثقافية او ايديولوجية أخرى، يبين بالملموس أن فكرة التساكن و التعايش بين الدين و السياسة تبدو ابوابها مهددة بالإغلاق و اضاعة المفاتيح، و ما اغتيال المناضل التونسي شكري بلعيد الا برهانا ساطعا جديدا على هذا.
لكن ما يدعو للقلق أكثر هو ان العقل السياسي الديني المتورط في الارهاب و العنف المنظم و التصفية الجسدية للمعارضين و الاحرار،يبعث اليوم برسائل جديدة وواضحة لكل من يهمهم الأمر، لكبح و لجم و عرقلة الطريق الشاق و المعقد نحو الحداثة و الديمقراطية في البلدان التي اختارت شعوبها مقاومة الاستبداد و الظلم و الظلام و اعتناق الحرية الجماعية و الفردية و العدل و الكرامة.
ان الاغتيال السياسي الذي ذهب ضحيته الراحل شكري بلعيد يذكرنا جميعا بالاغتيالات المشابهة و السابقة في مصر و لبنان و فلسطين وسوريا و الاردن و المغرب،الخ، و ما تبع ذلك من ممارسة انواع العنف المادي و المعنوي في حق المفكرين و المناضلين و المناهضين للنكوص و الرجعية.
وإذا كانت القوى الظلامية المتسترة بلبوس الاسلام كشفت في السنين الاخيرة عن وجهها الحقيقي، و عن عدائها المطلق للتقدم و الحداثة و الديمقراطية، فان ما يجري اليوم من حولنا يجعلنا معنيون كنخب ديمقراطية وعلمانية وحداثية للعمل على خلق جبهة وطنية حقيقية لمواجهة الظلامية من دون تردد أو حيادية، كما ان العنف اللفظي الذي اصبح اليوم في المغرب جزءا لا يتجزأ من ممارسة و خطاب الحركات الاسلامية في كل المواقع التي تحتلها، قد يتحول في كل لحظة الى عنف السلاح و هدر و سفك دماء الاحرار المغاربة.
ان تقوية التيارات الديمقراطية بتعددها و تنوعها باتت ضرورة ملحة من أجل بلورة عرض سياسي مناهض للفكر الشمولى، الرجعي و الظلامي، نظرا لحجم الرهانات التي تنتظر كل الديمقراطيين و التقدميين المغاربة من اجل تحصين المكتسبات و تفعيل اليات العدالة الاجتماعية حتى لا يتم الركوب على ضحايا الفقر و التهميش و الهشاشة و الاستبعاد الاجتماعي من اجل تجنيدهم ضد العلم و ارادة المعرفة و ارادة التغيير، و توريطهم في جرائم العنف و التصفية الجسدية.
هناك الكثير من الممارسات السلبية نعيشها اليوم جماعة،نريد ان نثبت لبعضنا البعض من هو التقدمي الحقيقي و من هو الوطني الفعلي و من هو الديمقراطي الصحيح، بل نبحث احيانا حتى على من ينقط و يؤشر على ممارساتنا النضالية، في حين ما يهم الطرف الاخر هو حشد الدعم و ممارسة الاستقطاب في صفوف الضعفاء و الفقراء و المحتاجين عن طريق تقديم بعض الخدمات الاجتماعية البئيسة او عن طريق تمويل "مشاريع" مذرة للربح، الخ. وكأننا في العهد العباسي الذي كان يعفي من الجزية معتنقي الاسلام.
لقد لعب التيار الديمقراطي الحداثي دورا طلائعيا في مسيرة التحرر و الانعتاق منذ بداية الاستقلال رغم ما تعرض له من جمر و رصاص، و هو ما يجب أن لا ننساه. لكن، ما تمليه المرحلة من نضال مدني و سياسي ضد من يخوض الحرب ضد القيم الكونية و الحريات الفردية من أجل الاستبداد الديني المتطرف، يسائلنا جميعا و يجعلنا نختار المستقبل للمواجهة المباشرة مع كل من يعتبر الديمقراطية بدعة.
ان السطو على ثورة اليسامين و قتل شرفائها و تعنيف قيادتها و ترهيب المساندين و المتعاطفين معها، أمر يستحق منا اكثر من المساندة و التضامن و الحزن، و ان التضامن الحقيقي مع الشهيد شكري بلعيد هو العمل الجماعي من اجل حماية المجتمع المغربي من خطر الاسلام السلفي على النمط الوهابي المستورد و غيره من الممارسات المذكية للصراع و المهددة للسلم الاجتماعي و السلام الجهوي و العالمي.
* استاذ جامعي، كلية الاداب مكناس