عرفان أحمد*
لا يستطيع احد ان ينسي الشاعر الحكيم رابندرنات طاغور وخاصة فلسفته في الحب و الجمال لأن كليهما عنصران رئيسيان في حياة الإنسان ويلعبان دورا بارزا في تثقيفه وتنويره. و فلسفة طاغور كلها تدورحول الحب والجمال، اللذان يعانقان الوجود كله، وجود العالم في الإنسان ووجود الإنسان في العالم، إذ يصبح الحب البشري معبرا عن الحب الإلهي. فالحب هو المعنى الأسمى لكل ما يحيط بنا، فإن كان نور الشمس يفتح باب الكون فإن نور الحب يفتح كنوز العالم ولذلك علينا أن نحب لكي نعمل وعلينا أن نعمل لكي نحب. فالإيمان بالحب لا يزعزع الانسان ما قد يجلبه الحب من جراح وآلام، لأن الحب هو بداية المعرفة، كما أن النار هي بداية النور.. وحب طاغور يتجه إلى الإنسان والحيوان والنبات والطبيعة والحياة والموت وكل الاشياء المتعلقة بالجمال، جوهرالحب البراءة والبساطة اللتان تجعلان الطيور وأوراق الشجر قريبتين من قلبه قربهما من قلوب الأطفال. وهو حب إلهي وإنساني معا، في حين يتجلي المستشرف الأعلى في الإنسان، فالإنسان يتحلي قداسته.. وهنا تحمل كلمة (طاغور) الأخيرة معنى الصوفي، إذ هو يقول (أبدأ رحلتي صفر اليدين، ولكن بقلب مفعم بالرجاء، فأنا على يقين أني سأحب الموت كما أحببت الحياة.
لا شك في ان طاغور عاش كل حياته مؤمنا بالانسان والحب والجمال، وكرس كل جهده ونشاطه الفكري لخير الانسان وانتج فكره النير كل القيم من اجل الانسانية. وخير دليل على ذلك ما نقرأه في رسالته الاخيرة حيث يقول فيها "مهما يكن من شيء فاني لن ارتكب الخطيئة الخطيرة: خطيئة فقدان الايمان بالانسان او الاذعان للهزيمة التي حاقت بنا في الوقت الحاضر على اعتبارها نهائية وحاسمة، بل سأظل اتطلع بأمل الى تحول في مجرى التاريخ بعد ان تزول هذه الغمة الجاثمة، وتصفو السماء ثانية وتهدأ، وربما بزغ الفجر الجديد من افقنا هذا، افق الشرق، حيث تشرق الشمس. وعندئذ تهب روح الانسان التي تهزم لتقوده من جديد الى طريقه، طريق التقدم رغم كل العو ائق، ليسترد تراثه الضائع".
بمناسبة يوم ميلاد هذا الشاعر العظيم النبيل وفيلسوف الهند و المؤمن بالانسان والحب والجمال تقام المهرجانات. فالهند لاتحتفل كل عام وحدها بذكرى ميلاد شاعرها العظيم فحسب، بل العالم الانساني كله يشاركها في هذه الاحتفالية الادبية ففي مصر والولايات المتحدة الامريكية والمانيا وروسيا واليابان وبريطانيا وفرنسا يحتفل عيد ميلاد طاغور العظيم ونقدم على مسارحها تمثيلاته الرائعة. كان طاغور يستمد الهامه من الطبيعة. وذالك لانه احب الطبيعة والتصق بالانسانية والحب والجمال.
عاش طاغور انبل ما يعيش الانسان، وفاضت قريحته باروع ما انتجته قريحة شاعر مبدع فنان وفيلسوف عظيم. فطاغور النبيل ينحدر من اسرة بنغالية عريقة في النبل والقدم حيث كان جده الامير "دوار كانات" القديس العظيم من كبار الادباء ورواد الثقافة والفنون. ونشأ طاغور الطفل والشاب في ما بعد في جو منزلي يموج بالموسيقى والشعر هائما لاتقيده قيود، فأبى ان يدخل المدرسة في حداثته، فاضطر والده الى استقدام معلم ليدرسه في البيت. نعود الى نشأة الشاعر العظيم حيث عاش في كلكتا فكانت الطبيعة مصدر الهامه. ففي السابعة من عمره فقد امه. فبكاها وكتب في رثائها اروع اشعاره قائلا:
"سأنظم بدموع الامي عقودا ومن الدر ازين بها عنقك يا امي. وحزني سيبقى لي وحدي لقد انطفأ المصباح الذي كان ينيرظلماتي ويقول طاغور في صدر شبابه: سأحطم الحجر وانفذ خلال الصخور وافيض على الارض واملأها نغما سأنتقل من قمة الى قمة ومن تل الى تل واغوص في واد وواد واضحك بملء صدري واجعل الزمن يسير في ركابي".
كتب طاغور للعالم كله ونشر فيضا من دواوينه الشعرية وقصصه ومسرحياته. وقد توالت عليه المآسي والمصائب وخاصة بعد فقدان زوجته التي احبها حبا لاحدود له، وذلك سنة 1902 وإثر ذالك فجع بابنته الكبرى سنة 1904 ووالده سنة 1905 وابنه الصغير سنة 1907. لكنه لم يضعف ولم يهن فمضى في طريق المجد قائلا: ان عاصفة الموت التي اجتاحت داري، وقصفت ابنائي كانت علي نعمة ورجمة. لقد جعلتني احس بنقصي، فدفعتني لطلب الكمال، والهمتني ان العالم لايفتقد ما يضيع منه.
بعد قراءة ومتابعة مؤلفاته: الطيور الشاردة، وشنزوشيا في الحب وغيرها ادركنا ان طاغورهو الحكيم هو رائع وشامخ وعظيم. ولدى مطالعة اشعاره نرى انه يستمد الالهام من المرأة فهو يقول:
"ايتها المرأة انت لست من صنع الخالق وحده بل انت ياعروس الازمان فن الرجال." لم يعش طاغور في الهند حياته كلها بل زار معظم ارجاء العالم. فكان يقابل اين ما حل بالترحاب والتقدير فيشرح فلسفته القائمة على الحب و الجمال و الوئام والتفاهم بين ابناء البشرية جميعا، ومن اجل كل هذا منح طاغور العظيم عام 1914 جائزة نوبل للادب.. كتب طاغور الشاعر الفيلسوف اكثر من الف قصيدة واكثر من الفي اغنية كما كتب عددا كبيرا من القصص القصيرة والطويلة والمسرحيات. فكان يعشق الموسيقى والرسم. وفي العام 1941 اشتد عليه المرض ومات في شهر آب لكنه ظل خالداً.
لا شك في ان طاغور سيظل بشعره وفلسفته يعيش في عالمنا الكبير. ونحن نحمل ذكراه في قلوبنا ونردد ابياته قائلين: ايتها البشرية العريقة هبي للعالم مثل طاغور فليصيح الناس ويهتفوا للاخاء والسلام والحرية وليرفعوا راية الايمان لرفعة الانسان وحبه لاخيه الانسان.3 كان طاغور يتمتع بموهبة تحويل الألم إلى فرح. وكان يحب الحياة إلى حد أنه أراد ألا يضيع قداستها بالوقوف عند ما تسببه حركتها من شعور بالألم. كانت مهمته مزدوجة: اكتشاف ربه، إله الجمال، في الطبيعة والجسد والفكر والقول والفعل، وتحويل الحياة وتعديلها لتصبح جميلة بكليتها. كتب في الـسادهانا ("تحقيق الحياة")
"أين يمكنني أن ألقاك، إن لم يكن هذااللقاء في بيتي الذي أصبح بيتك؟ وأين يمكنني الانضمام إليك، إن لم يكن في عملي الذي صار عملك؟ إذا غادرت بيتي لن أبلغ بيتك… إذا قعدت عن عملي محال عليّ أن أنضم إليك في عملك؛ إذ إنك تقيم فيّ وأنا فيك".
لقد انعكست روحه هذه على مركز تربيته وتثقيفه الشهير" شانتي نيكيتان" (أو "مرفأ السلام") الذي أسسه عام 1901، وسرعان ماأصبح بؤرة ديناميّة خلاقة لهذا الجمال، حيث تفتح فيه الشعر والرسم والموسيقى والرقص والمسرح والعلوم. لقد حقق طاغور من خلال هذه المدرسة الرؤيا التي عبر عنها في مؤلفه "الوحدة المبدعة"، حيث تعطي الطبيعة للإنسان معنى التوق إلى اللانهائي. فالإنسان في الطبيعة إنسان حرّ، "ليس في اعتبار الطبيعة كمصدر لتأمين معيشته، بل كينبوع لتحقيق انجذابات روحه إلى ما هو أبعد منه هو نفسه."
لقد فجّرت المعاني السامية للمحبة والجمال في ديوانه جيتنجالي الذي عبر فيه عن أمل جديد للإنسانية وهي غارقة في الحرب العالمية الأولى. وعندما كان طاغور يرتقب الموت مريضاً ببصيرة صافية كانت الحرب العالمية الثانية قد اندلعت، فأعلن في يوم مولده الثمانين. عندما أجول بصري من حولي، أقع على أطلال مدنية مغرورة تنهار وتتبعثر في أكوام هائلة من التفاهة والعبث. ومع ذلك فلن أذعن للخطيئة المميتة في فقدان الإيمان بالإنسان؛ بل إنني بالحري سأثبِّت نظري نحو مطلع فصل جديد من فصول تاريخه، عندما تنتهي الكارثة ويعود المناخ رائقاً ومتناغماً مع روح الخدمة والتضحية سيأتي يوم يعاود فيه الإنسان ذلك الكائن الأبيّ فخطّ مسيرته الظافرة على الرغم من كافة العراقيل، ليعثر على ميراثه الإنساني الضائع.
كانت فلسفة طاغور فلسفة الحب والجمال والأمل والثقة بالإنسان، المبنية على تفتح روحه، وتطور وعيه، وتحقيق طاقاته. ولهذا فقد ارتبطت المثالية الإنسانية عند طاغور بالعمل والتطبيق، وكان هو نفسه مثالاً لكل مبدأ أعلنه أو فكرة نادى بها.
إن "جيتانجالي" أو القربان الشعري و "جورا روية" و"كتب البريد في المسرحية" هي من اهم اعماله التي تعكس فلسفته في الحب والجمال والبشرية.
المرأة في ضوء فلسفة طاغور/ تبدو كما يلي:
هي الوحي في فكر العقول تهفو..
هي الزهر في روض الغرام تنمو..
هي الطير في جو الهيام تعلو..
هي النجم في لثام الحب تبدو..
هي القمر في ظلام الليل تزهو..
هي الشمس في فضاء الكون تسمو..
هي السعادة في سماء الحب ترنو..
هي الروح في أجواء العواطف تجثو..
هي الجمال في معاني الحنان تشدو..
هي الفتنة في ألوان الجاذبية تغدو..
هي الحب في قضايا العشاق تشكو..
هي قبلات في ليالي الربيع تحلو..
ذات مرة سئل عنه رأيه في المرأة فبدأ يقول:
أعتقد أن الله سبحانه وتعالى لم يخلق المرأة إلا بعد أن جمع ما جمعه من الطبيعة فأخذ من"
القمر... استدارته
ومن النجوم... لمعانها
ومن الشمس... وهجها
ومن الغيوم... دموعها
ومن الرياح... تقلبها
ومن البحر... عمقه وغدره
ومن النهر... هدوءه
ومن العاصفة... عنفها
ومن الأمواج... مدها وجزرها
ومن الندى... رطوبته
ومن النسيم... رقته ورخاءه
ومن العشب... اهتزازه
ومن الورق... خفته
ومن الأغصان... تمايلها
ومن الورد... لونه وعطره و.... شوكه
ومن الجوهر... صلابته
ومن الذهب... لمعانه
ومن العسل... شهده وحلاوته
ومن العلقم... مرارته
ومن المها... عيونها
ومن الأرنب... حياءه وخجله
ومن الطاووس... خيلاءه وزهوه
ومن الظبي... نظرته
ومن الغزال... رشاقته
ومن النمر... شراسته
وجمع الخالق كل هذه العناصر في بوتقة واحدة فخرجت المرأة
وأهداها للرجل لتكون رفيقة دربه وشريكة حياته في أفراحه وأحزانه
لكن الرجل عاد إلى ربه بعد فترة و شكره على هديته وقال له
ياربي إن المرأة كثيرة المطالب والمصاعب....
ومرها أكثر من حلوها...
فأبعدها عني
فاستجاب الخالق له
ولكن بعد أسبوع عاد الرجل ليناجي ربه قائلاً:
رباه إن حياتي أصبحت موحشة... أشعر أنني في منفى
رحماك ربي...
أعد إلي المرأة لأنها
نور حياتي... ومؤنسة وحشتي... وزهرة أيامي
وأيقنت الآن أن لولا المرأة لكانت الحياة صحراء مقفرة
فعلى الرجل ان يحافظ جيداً على هدية الخالق هذه إليه وأمانته التي استودعها عنده.
ويحملها بحلوها ومرها... بوردها وشوكها
فهو الصدر الحنون
والأب المتفهم
والأخ القريب
وان يتأكد... إن فقد ها في يوم من الأيام فسيفقد معها السعادة.
قدم طاغور للتراث الإنساني أكثر من ألف قصيدة شعرية، وحوالي 25 مسرحية بين طويلة وقصيرة وثماني مجلدات قصصية وثماني روايات، إضافة إلى عشرات الكتب والمقالات والمحاضرات في الفلسفة والدين والتربية والسياسة والقضايا الاجتماعية، وإلى جانب الأدب اتجهت عبقرية طاغور إلى الرسم، الذي احترفه في سن متأخر نسبيا، حيث أنتج آلاف اللوحات، كما كانت له صولات إبداعية في الموسيقى، وقام بتحديد أكثر من ألفي أغنية، اثنتان منها أصبحتا النشيد الوطني للهند وبنجلاديش، ولكن معظم انتاجات طاغور كانت تتمحور حول شيء واحد هو الحب حيث يقول:
"لقد جاء الحب.. وذهب
وترك الباب مفتوحاً...
ولكنه قال انه لن يعود
لم اعد أنتظر إلا ضيفاً واحداً
انتظره في سكون
سيأتي هذا الضيف يوماً
ليطفئ المصباح الباقي..
ويأخذه في عربته المطهمة
بعيداً.. بعيدا..
في طريق لا بيوت فيه ولا أكواخ"
عاش طاغور طول حياته في ضوء هذه الفلسفة التي تتعلق بالحب والجمال واخلد فلسفته بعد مماته ايضا ولا يزال العالم يتمتع ويتلذذ بمنتجاته الزاخرة بهذه الفلسفة.
*ناقد أدبي هندي