أولئك الذين يراهنون على أن اللغة العربية محفوظة بحفظ القرآن الكريم يرتكبون مزلقين علميَّيْن: مزلقًا نصوصيًّا، ومزلقًا واقعيًّا تاريخيًّا. فهُم في الأوَّل يتَّكئون على تأويل الآية القرآنيَّة: «إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُون»، يتأوَّلونها كما يشتهون، ويصرفونها إلى ما يتمنَّون، أو يحلُمون. وهو محض تأوُّل، لا يقطع به النصّ، ولا يؤيِّده التفسير النصِّي المنطقي للآية، حسب سياقها.
النصّ، بدءًا، لا يقول «اللغة العربيَّة»، بل «الذِّكر». ثم إن هذا الاستدلال، فوق كونه تأوُّلًا، يقتطع الآية من سياقها، ليعلِّقها هكذا شِعارًا، كي يستشهد بذلك الشِّعار لأمرٍ في نفسه. وإلّا فسياق الآيات هو:
«وَقَالُوا: يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ، إِنَّكَ لَمَجْنُون! لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ، إِنْ كُنتَ مِنَ الصَّادِقِين! مَا نُنَزِّلُ المَلَائِكَةَ إِلَّا بِالحَقِّ، وَمَا كَانُوا إِذَنْ مُنظَرِين. إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ، وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُون.» (1)
فالآية في هذا السياق وردت، لا معزولة، كما يُراد لها، لتَصْلُح شِعارًا. ولأجل هذا السياق هناك من أرجع الضمير في كلمة «له»، إلى الرسول، أي أنه محفوظ من الجنون، كما جاءت الآيات من أوَّلها في الردِّ على هذه التهمة، مثلما في الآية الأخرى:
«يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ، بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ! وَإِنْ لَّمْ تَفْعَلْ، فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ. واللَّـهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ، إِنَّ اللَّـهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِين.»(2)
فالمقصود بالمحفوظ في الآيات ليس القرآن أصلًا، بل الرسول، حسب بعض القرءات التفسيريَّة. وإنْ رجّح (ابن كثير)، على سبيل المثال، أن المقصود حفظ القرآن من التغيير والتبديل. قال: «وهو ظاهر السياق، والله أعلم». ومع أن ظاهر السياق يحتمل كذلك ما ذهب إليه المفسرون، الذين أشار إليهم: من كون الحفظ للرسول لا للقرآن، فقد أثبت ابن كثير ما أثبت ثم رجّح ما رجّح. ولكن انظر، إلى جانب ذاك، إلى تحرّج العالم هنا من القطع! ثم قارن ذلك بمن يقتطع من السياق، ويتاوَّل في المعنى، ويُورد رأيًا واحدًا، ويقطع به، وهو لم يَعُد يقول: «والله أعلم»! لأنه إنما يوظِّف النصوص بما يخدم خطابه المبيَّت، لا وَفق قراءة نُصوصيَّة، ولا بمنهج عِلميّ متجرِّد.
ولعلّ هذه اللعبة الاستدلاليَّة «العاميَّة»، الزاعمة بحفظ اللغة العربيَّة مستندة إلى الآية، إنما ظهرت في العصر المتأخِّر، حينما احتدم النقاش حول اللغة العربيَّة، فظَهَرَ أحد المتعبقرين، قائلًا بالنظريَّة الآتية: بما أن القرآن محفوظ بنصِّ القرآن، إذن اللغة العربيَّة محفوظة بنصِّ القرآن! مع أن تضييع المسلمين أو العرب ليس مضمونًا بضامنٍ قطّ؛ فهم قد يضيِّعون حتى القرآن نفسه، ناهيك عن اللغة العربيَّة. أ ولم يقل تعالى:
«وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَىٰ يَدَيْهِ، يَقُولُ: يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا! يَا وَيْلَتَىٰ، لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا! لقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي، وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنسَانِ خَذُولًا. وَقَالَ الرَّسُولُ: يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَـٰذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا»؟(3)
هذا أمر بدهي، غير أن شَطْحَ مَن يربطون حفظ اللغة العربيَّة بحفظ القرآن هو اختراع لطيف سخيف، في آن، يتخدَّرون به ويُخدِّرون. وإنما مَثَلُهم في ذلك كاليهود من قبلهم، الذين زعموا بوعدٍ إلاهيٍّ بأرض الميعاد. فهؤلاء كذلك يزعمون بوعدٍ إلاهيٍّ، لا ريب فيه، بحفظ لغتهم العربيَّة دون لغات البشر، متَّخذين ذلك عقيدةً، قد يحسمون على شَباها، كالعادة، الإيمان من عدمه! وهم بطبيعة حالهم تلك لا يلتفتون إلى عِلْم اللغة، ولا إلى اللسانيَّات الحديثة، ولا إلى تاريخ اللغات، ولا إلى سنن تطوُّرها. هذا مع الفارق الشاسع بين أرباب «أرض الميعاد» وأرباب «اللغة المحفوظة»؛ فالشعب الأوَّل يرفع الشِّعار الدِّيني حافزًا، ثم يُخطِّط من أجله ويعمل، ويسخِّر العالَم للوصول إليه، ولا يستنيم مثلنا، ويتمنَّى على الله الأماني!
أمّا المزلق الوهمي الآخَر وراء تلك المصادرة، فدَسُّ الرؤوس في الرمال عن واقع الحال التاريخي للغة العربيَّة. فأين حِفظ اللغة العربيَّة المزعوم؟! أ لدى العرب أم لدى المسلمين؟! ومتى حُفظت، أ حُفِظَتْ ماضيًّا؟ أم حاضرًا؟ أم تُرى ثمَّة مهديًّا منتظرًا سيحقِّق لها ذلك في المستقبل؟! واقع الحال واضحٌ، ومنذ نحو عشرة قرون، من تدهور العربيَّة المطَّرد. وهو أمرٌ لا يحتمل ذلك التغافل العجيب، أو ذلك الاستبلاه التأويلي!
وهُم فوق هذه المضلَّة الحديثة، وإضافةً إلى ما يوشك أن يكون مِن قِبَلِهم تدليسًا قرائيًّا، يرتكبون خطيئةً أخرى، تمثِّل المولود غير الشرعي لذلك التأويل المبتدع. هي أنهم بذلك الاستدلال يُسهِمون سلبيًّا- وباسم الدِّين- في الموقف من العربيَّة، وذلك من وجهين: أوّلهما، أنهم يُقدِّمون حُجَّةً لمَن يسعون، عن قصدٍ أو عن هوى، في فساد العربيَّة، فإذا هم يردِّدون: لا خوف على الفصحى؛ فلغتنا العربيَّة محفوظة بالنصِّ القرآني! وثانيهما، تخذيلهم الضِّمنيّ عن العَمَل العِلْمِيّ والعَمَلِيّ للنهوض بالعربيَّة كسائر الشعوب الحيَّة. فما دامت اللغة العربيَّة محفوظة، فالحمدلله ربّ العالمين، وكفى الله المؤمنين القتال! لا داعي، إذن، لا إلى إصلاح المناهج، ولا إلى تقويم المعلِّم، ولا إلى ترشيد الإعلام، ولا للأخذ بالتعريب، ولا إلى شيءٍ من ذلك كلِّه! وهل سنكون، نحن العَرَب، أعظم وأقوى من الوعد اللغوي الإلاهي المُبين؟! عليه، فلا حاجة للحلول البشريَّة، كما يفعل البشر؛ لأننا غير البشر! نحن استثناءٌ سماويٌّ خالد، ولغتنا استثناءٌ سماويٌّ خالد، مثلنا! ولعَمري، إن هذا النهج من التفكير- إنْ صحَّ نعته بالتفكير- هو بيت الداء العربي، وأُسّ الفساد الحضاري!
أما وإن العاميَّة- بوصفها أحد مظاهر الفساد اللغوي العربي- لإحدى حكاياتنا الطويلة مع ضياع العربيّة. وهي حكاية أطول من ليل امرئ القيس. ولقد أصبحت العاميَّة في شِبه الجزيرة العربيَّة والخليج العربي رديفةً لمفاهيم التراث والأصالة، خلال العقود الأخيرة، ولأوَّل مرَّة في التاريخ العربي. ولذلك تسلَّلتْ إلى المنابر الرسميَّة، التعليميَّة والإعلاميَّة، وعلى نحوٍ ممنهج، وما زال طموح أنصارها التوسُّعيَّة أكثر وأكبر. وهذا، أردنا أم لم نُرد، خطٌّ يوصل إلى هاوية، بتهميش العربيَّة الفصحى أكثر ممَّا هي عليه من تهميش، والتأسيس للَّهجات لتصبح البديل عن الفصحى. لكنك ستسمع المسارعين في هذا المضمار المضاد للعربيَّة يتلون عليك آية تنزيل الذِّكر وحفظه، لعلّ شياطين الارتياب تنجلي عنك! والسؤال المحيِّر الأكبر: لمصلحة مَن انقلب تعليمنا وإعلامنا إلى ترسيخ العاميَّة؟! ولماذا سُخِّر الإعلام، ووسائل الاتصال الحديثة، مع التعليم- وكلُّها وسائل كان يفترض أن تذيب العزلة بين العرب التي أورثتهم اللهجات العاميَّة في الماضي- لماذا اتُّخِذَ ذلك كلّه، لا لمدِّ عمر العاميَّة فحسب، بل لتأصيلها أيضًا وترسيخها ونشرها، عبر أحدث الوسائل والتقنيات؟! ثم ما الذي يدفع (المتعلِّم) اليوم إلى استعمال العاميَّة في الكتابة، إلَّا أحد أمرين: انفصام في شخصيَّته الثقافيَّة، أو انطلاق وراء ذلك لأهداف فكريَّة، أبعد من اللغة! ذاك لأن مَن يتعلَّم لغة، وينال بها شهادةً علميَّةً- وهي فوق ذلك لغته القوميَّة، ولغة حضارته وأُمَّته ودِينه- ثم يأبى بعدئذٍ أن يستخدمها في كتابته وأدبه، بل يستخدم لغة الأميِّين، مِن أجداده وجدَّاته، هو، بلا شكّ، إنسانٌ مريضٌ، إمَّا لأسباب ذهنيَّة، أو لأسباب فكريَّة أيديولوجيَّة.
الدكتور عبد الله: كاتب سعودي.
(1) سورة الحجر: الآيات6- 9. (2) سورة المائدة: الآية 67. (3) سورة الفرقان: الآيات: 27- 30._[الكاتب: أ.د/عبدالله بن أحمد الفيفي، عنوان الموضوع: «هل اللغة العربيَّة أرض الميعاد؟»، المصدر: صحيفة «الراي» الكويتية، العدد 12259، الثلاثاء 23 يناير 2013، ص26]،