لا ينتبه السلفيون والإسلاميون المتطرفون عموما إلى أنهم يكررون نفس الأخطاء السابقة، ويوقعون أنفسهم في نفس المواقف الحرجة التي وقع فيها الذين من قبلهم، ففي كل مرة يحدث فيها نوع من الظلم يستهدف سكان بقعة من بقع المعمور، ويكون الغاصب مسلما يركنون إلى الصّمت، ولا يبالون بكل أنواع القهر والقتل والتشريد التي يقوم بها، وعندما يستنجد المظلوم بالدول الأجنبية تتعالى صيحات الإسلاميين مندّدين بـ"الهجمة الصليبية" على "دار الإسلام".
طبعا تنتهي المأساة باندحار المعتدي، الذي قد ينتهي في جُحر أو مغارة أو في مجاري المياه، لكن منطق السلفيين لا يتغير.
حدث هذا عند غزو العراق للكويت عام 1990 ، حيث قام الجنود العراقيون بأعمال وحشية يندى لها جبين الإنسانية، اغتصاب النساء والبنات وحتى الأطفال، واستباحة الأعراض ونهب الذخائر والممتلكات وتدمير المنشآت بشكل يذكر بهجمة المغول على بغداد قبل قرون. اضطرت إمارات العشائر النفطية التي لا قبل لها بمواجهة مليون جندي عراقي، إلى الاستنجاد علانية بالأجنبي الأقوى، الذي أصبح عليه التدخل لرعاية مصالحه بنفسه، وخصصت لذلك 60 مليار دولار من أموال البترول، فيها نفقة الحرب وفيها تكاليف الجُعة والويسكي للجنود الأمريكيين، كما استدرّت عشرات الفتاوى من فقهاء الوهابية الذين أصبحوا غاية في الطيبوبة مع "الكفار بالديار الغربية"، فأفتوا بـ"جواز الاستعانة بالكافر على المسلم"، إذا بغى المسلم وتجبّر وعتا عتوا كبيرا. وانتهت الحكاية، بعد 45 يوما من القصف الجوي الذي تمّ بدعم من تحالف ضم 30 دولة من بينها مصر والمغرب، إلى إعادة العراق إلى "العصر الحجري" كما وعد بذلك قائد الجيوش الأمريكية، ولم تنفع الصواريخ الكارتونية التي رفعها الإسلاميون والقوميون العرب في مسيراتهم "المليونية" بشوارع المدن في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.
حدث هذا أيضا في السودان عندما انتهك العسكري الدموي عمر البشير كل القوانين والأعراف، و أحرق وذبح 300 ألف نسمة من أبناء دارفور، وشرّد مليونين من البشر، دون أن يحرك ذلك أدنى شعور من السلفيين والمشايخ ومجالس "العلماء"، وعندما أصدرت المحكمة الجنائية الدولية حكمها على الحاكم العسكري السوداني بكونه "مجرم حرب" مبحوث عنه دوليا، عندئذ فقط انفكت عقدة الألسنة الإسلامية والعربية بالتنديد بالمحكمة وإعلان المؤازرة والدعم المبدئي للعسكري الذي وقف يرقص على منصة الخطابة رافعا عصاه في استخفاف وقح بجماجم ضحاياه.
السلفيون والمسلمون عموما لا يعتبرون بما يجري، ولا يستخلصون الدروس، ويرون في كل واقعة بداية مطلقة، بداية التاريخ، وعندما يُصدمون، ينسون كل شيء ثمّ ينطلقون من جديد، وهكذا ..
الواقعة التي أمامنا واضحة وضوح الشمس، فبعد سقوط النظام الليبي، أصبحت أعداد كبيرة من قطع السلاح بيد العديد من التيارات في منطقة الساحل، منهم الطوارق ومنهم السلفيون، كانت فرصة أمام الطوارق لأن يطالبوا بحقوقهم المهضومة في منطقة "أزواد"، ويعلنوا الانفصال بعد أن طالبوا من قبل بحكم ذاتي لم يتمّ قبوله، وبعد عقود من الظلم والتهميش لم يقم خلالها النظام المالي بأية إصلاحات تسمح بالتقسيم العادل للثروات، وإنصاف المتضررين. مباشرة بعد ظهور الطوارق على مسرح الأحداث بدأت تظهر المجموعات الأولى للإسلاميين المتشدّدين في المنطقة نفسها، واطلقوا على أنفسهم "أنصار الدين". ثم سرعان ما تكاثرت أعدادهم وعتادهم بوتيرة متسارعة تؤكد مقدار الكارثة التي تمثلها أموال البترول الخليجية على دول شمال إفريقيا والشرق الأوسط.
عندما انتصر الطوارق وحرروا منطقة أزواد، شرعوا في البحث عن حلفاء لقضيتهم عبر العالم، وعندما انتصر "أنصار الدين" على الطوارق واستولوا على منطقة أزواد شرعوا مباشرة في إعادة سيناريو الطالبان في أفغانستان: بناء إمارتهم الدينية، وفرض شريعتهم على الجميع بالإكراه والعنف الوحشي، وقتل النساء ورجمهن بالحجارة، وبتر الأعضاء، وإحراق المكتبات العريقة وإتلاف الوثائق وتخريب الأضرحة وتدمير الآثار التاريخية، ومنع الآلات الموسيقية وحظر كل أنواع الاحتفال وفرض لباس خاص على النساء إلخ...
أمام هذه الأحداث والوقائع الغريبة والتي أصبحت تقع على مقربة منا هذه المرة، لم يحرك السلفيون ساكنا، فلم يفعل "أنصار الدين" إلا "تطبيق الشريعة السمحة"، لكن وهم يفعلون ذلك أصبحوا علاوة على أنهم يرغمون ذويهم على تحمل كابوس يومي لا يطاق، يشكلون تهديدا خطيرا للمنطقة بكاملها، فتقاطر المتطرفين الدينيين إلى أزواد من كلّ صوب، وتزايد ترسانة الأسلحة، ينذر بتضخم خطير لمشكل وُوجه في البداية باستخفاف.
استنجدت مالي بفرنسا، وبالدول المجاورة، وأصبح سكان المنطقة ينتظرون على أحر من الجمر المنقذ الذي يأتي من وراء البحار أو من عمق الصحراء لينقذهم من البلاء الذي حلّ بهم.
لم يجد السلفيون فيما قام به المتطرفون الدينيون من جرائم مبررا كافيا للإستعانة بالأجنبي، كما اعتبروا "أنصار الدين" "مستضعفين أمام الهجوم الصليبي". ولنا تعقيب على الشكل التالي:
ـ لا نوافق على التدخل العسكري الأجنبي في أي بلد، لكن بالمقابل لن نقبل أبدا بتضخم إمارة إرهابية في منطقتنا تهدد المصالح الاستراتيجة للدول المغاربية جميعها.
ـ أن "أنصار الدين" في مالي لم يقولوا أبدا إنهم "مستضعفون" بل قالوا إن لهم من القوة ما يمكنهم من مواجهة "الكفار" من الغرب ومن مالي ومن الطوارق والدول المجاورة، ولهذا فهم مستعدون لمواجهة التدخل الأجنبي الذي استنجد به النظام المالي والسكان.
ـ أن المستضعفين الحقيقيين فيما يجري هم السكان البسطاء من الذين لا يتوقون إلا إلى العيش في أمن وسلام، وهم الذين يستنكرون بطش التنظيم الإرهابي لـ"أنصار الدين"، وهم الذين سيحتفلون لا شك عندما تنقشع غمامة التطرف السوداء من سمائهم.
ـ أن "الموقف الشرعي" الذي يزعم السلفيون المغاربة أنهم ينطلقون منه كان ينبغي أن ينظر أولا في المناكر والفضائح والجرائم التي ارتكبها مجانين الوهابية العمياء في مالي، في حق النساء والمثقفين والفنانين والممتلكات المادية والرمزية، وليس مناصرة الإرهاب والتظاهر بالاعتدال الكاذب.
ـ أنه لا مستقبل للسلفية المسلحة والإرهابية في المنطقة المغاربية، والمكان الطبيعي للمتطرفين هو المغاور والصحاري والمناطق القاحلة البعيدة عن أعين البشر الآمنين.
أحمد عصيد.