وفرت الإصلاحات الدستورية لأية حكومة أفرزتها صناديق الاقتراع الشروط الموضوعية لكي تشتغل بكل اطمئنان مادام قد حدد مهام الجهاز التنفيذي بكل الوضوح اللازم، ورسم معالم الممارسة السياسية كما اتفقت عليها كل الأحزاب السياسية، التي كانت طرفا أساسيا في الاستشارات التي سبقت الصياغة النهائية لنص الدستور الجديد.
ولقد كان حزب العدالة والتنمية في قلب هذا النقاش، واختار طواعية الإسهام في هذه المرحلة، وفي حساباته الوصول، لأول مرة في تاريخه، إلى الحكم، وكذلك كان.
ولا يستطيع العدالة والتنمية أن يخفي انتشاءه بهذه اللحظة، لأنه نجح في انتزاع الفوز من معترك الأحزاب التقليدية، رغم أن عمره لا يتعدى عقدا ونصف.
كل الفاعلين السياسيين صفقوا لهذا المسلسل، ولم يطعنوا في نتائج انتخابات شهد الجميع في الداخل والخارج بأنها كانت نزيهة، وتمت وفق الشروط المتعارف عليها ديمقراطيا.
وبما أن الحزب لم يحقق أغلبية مطلقة فقد كان منطقيا أن يلجأ إلى " لعبة " التحالفات، لاختيار حلفائه في قيادة سفينة السلطة التنفيذية، وقدم برنامجا حكوميا نال ثقة البرلمان، وشرع يعمل تحت إغراء القوة العددية لنوابه في المؤسسة التشريعية، والوعود التي وزعها طولا وعرضا على الناخبين، لكنه اختار في بداية تلمس طريقه في تدبير الشأن العام، أن يطلق الفقاعات الفارغة من خلال السعي إلى إلهاء الناس بقضايا يتطلب التعامل معها قدرا من الرزانة والحكمة.
وبينما كان المواطنون ينتظرون أن تقدم الحكومة على قرارات تصب في اتجاه تحسين أوضاعهم اجتماعيا واقتصاديا إذا بحزب رمز" المصباح" يسارع إلى نشر لوائح الحاصلين على لا كريمات أشخاصا ذاتيين وشركات، وإلى الإعلان عن موقف متطرف من المهرجانات، وأن يتعامل مع الكثير من القضايا مرتديا جلباب المعارضة مراهنا بذلك على الشعبوية كأسلوب في الحكم، فكان طبيعيا أن يصطدم، مع مرور الوقت، بالعقبات الجمة للواقع، وأن يبدأ حلفاؤه في فقد الثقة فيه، لأنهم لا يريدون أن يحرقوا آخر أوراقهم في فرن العدالة والتنمية الملتهب بالتصريحات النارية والخرجات الإعلامية غير المحسوبة العواقب.
وأمام هذا العجز افتعل رئيس الحكومة لغة الأفاعي والتماسيح والعفاريت، وخلق أعداء وهميين يبرر بهم العجز عن إيجاد أجوبة مقنعة لانتظارات المواطنين.
لا أحد يمسك بتلابيب هذه الحكومة أو يجرها إلى الوراء، لكنها لا تتوفر على قدرة الدفع الكافية لصعود العقبة أو العقبات، لذلك أصبحت تهوى الالتفات إلى الوراء أكثر مما تصر على السير إلى الأمام، وبدأت عناصر الضعف تتراكم داخلها، لكنها ظلت تجتهد من أجل إلصاق التهمة بالآخرين، ورفض الاستجابة لنداءات التعديل الحكومي بهدف إعطاء نفس جديد للتجربة تماما كما يفعل مدربو الفرق الرياضية، وفق ما تقتضي أصول اللعب.
لا أحد ينكر الظرفية الاقتصادية الصعبة التي تطبع الاقتصاد العالمي، لكن لا أحد يستطيع أن ينكر أيضا أن ملك البلاد محمد السادس وفر لهذه الحكومة، التي يريد لها أن تنجح، لأنها حكومة جلالة الملك، 5 ملايير من الدولارات، بفعل المصداقية التي يتمتع بها، لدى دول الخليج العربي، التي أمنت بهذا الورش الإصلاحي الكبير الذي يقف وراءه محمد السادس.
ومن باب الاعتراف بالجميل ينبغي الاعتراف بهذا المجهود الملكي الاستثنائي، الذي فك رقبة الحكومة من الحبل الذي يشتد حولها، غير أن حزب العدالة والتنمية، يريد أن يجني الثمار لوحده من دون الالتفاف إلى من يشكل معه الأغلبية؟
فماذا يعوز الحكومة لكي تشتغل بكل راحة، غير انعدام التجربة والخبرة اللازمة، وكما يقول المثل الشعبي " لي ما مولف ببخور تيتحرقو جلايلو"، وهذا ما يقع لحكومة بنكيران بالضط؟
وحتى إذا احترقت هذه " الجلايل"فإن ذلك لن يجعل المغرب يخطأ موعده مع التاريخ، بل العدالة والتنمية وحدها، لأن الرأس هو رأسها، ولأنها هي من تضع يدها على العجلة المسننة، وإذا ما قُطع أصبع فلن يكون إلى أصبع العدالة والتنمية وحدها.
ولا يخيف أحد أن يقتطع هذا الأصبع لأن أيادي المغرب كثيرة جدا، وعلى رأي المثل " اقطع هبرة يبرى اموضعها".