وهبوا حياتهم لرعاية أبنائهم وقدموا كل التضحيات لإيصالهم إلى بر الأمان، آملين أن يكونوا سندا لهم في المستقبل عندما يصبحون في أمس الحاجة إليهم، غير أنهم سيصطدمون بتملص هؤلاء الأبناء من مهمة رعايتهم وتبادل الاتهامات فيما بينهم بالتقصير. ليجد هؤلاء الآباء والأمهات أنفسهم وحيدين في مواجهة ظروف المرض وغياب الإمكانيات المادية التي تضمن لهم حياة كريمة في أرذل العمر أو مرغمين على قضاء بقية أيامهم في التنقل بين منازل الأبناء الذين يرفض كل واحد منهم الانفراد بمهمة رعاية والديه.
كرست حياتها لتربية أبنائها ورعايتهم إلى أن كبروا وتزوجوا، ولم يتوقف دورها كأم، بل لعبت إلى جانبه لسنوات طويلة دور الجدة التي تهتم بأحفادها وترعاهم في محاولة لتقديم يد العون لأبنائها والتخفيف من أعبائهم. والأمر نفسه ينطبق على زوجها الذي لم يدخر المال والجهد لإسعاد أفراد أسرته وأبنائه بالتحديد، في ثقة تامة بكونهم لن يخذلوه عندما يشيخ ويصير في أمس الحاجة إليهم.
تملصوا من رعاية والديهم
«راجلي مرض بزاف وكثرت علينا المصاريف» تقول فاطمة ذات الثامنة والستين عاما، التي تخلت عن عزة النفس التي تطغى على شخصيتها، وقررت الاتصال بأبنائها لتطلب منهم مساعدتها على تحمل أعباء الحياة، بعد أن تضاعفت مصاريفها ومصاريف زوجها نتيجة تدهور حالتهما الصحية وأصبحا في حاجة دائمة إلى تناول الأدوية وزيارة الطبيب بشكل منتظم.
استمدت الأم الشعور بالطمأنينة من خلال كلام أبنائها الذين وعدها كل واحد منهم بأنه سيفعل ما بوسعه لإرسال مبلغ من المال بداية كل شهر، للمساهمة في مصروف البيت وتأمين متطلباتها وزوجها من المأكل والأدوية.
واظب كل واحد من الأبناء على إرسال مبلغ مالي لعدة أشهر، شعر فيها الوالدان بأن مجهوداتهما في تربية أبنائهما لم تضع سدى، لكن سرعان ما سيمتنع الإبن الأصغر عن إرسال «المانضة» ليتخلى باقي الأبناء عن ذلك الدور واحدا تلو الآخر بعدما تبادلوا الاتهامات بالتقصير فيما بينهم، في إصرار تام على عدم التضحية بأي مبلغ مالي مادامت مهمة الإنفاق لن تكون متقاسمة بين كل الإخوة.
برر بعض الأبناء عدم قدرتهم على إعالة والديهم بمصاريف الأبناء المتزايدة، بينما تحجج الآخرون بكثرة الديون وبعض الالتزامات المادية التي تجعلهم عاجزين حتى عن توفير ضروريات العيش لزوجاتهم وأبنائهم، لتمضي الأيام والأسابيع دون أن تتلقى فاطمة وزوجها أي دعم مادي أو رعاية من طرف أبنائهما.
عيل صبر الوالدين من تجاهل أبنائهما، ليقررا بعد أن استنفدا كل وسائل الإقناع اللجوء إلى القضاء، الذي ستكون له كلمة الحسم، بحيث ستحكم المحكمة لصالح الوالدين، وتقضي بتوزيع النفقة بين الأبناء الذين سيقومون أخيرا بدورهم في إعالة والديهما، بعد أن أغلقت في وجههم كل المجالات للتملص من تلك المسوولية.
ضيفان ثقيلان!
«كل واحد كيعرف غير راسو ووليداتو فهاد الوقت» بهاته العبارة لخص عبد الله معاناته وزوجته نتيجة تملص أبنائهما من مهمة رعايتهما، متحدثا بنبرة يعتصرها الألم والحسرة عن الحقيقة المرة التي أدركها كل منهما متأخرا، بعد أن عجزا عن إيجاد سبب مقنع يدفع الأبناء إلى التخلي عنهما والتنكر للدم الذي يجري في عروقه، ويحول قلوبهم إلى حجر بعد أن كانت تنبض بالحنان تجاه الأب والأم اللذين وهبا عمرهما من أجل رعايتهم.
بالرغم من ضعف إمكانياته المادية بسبب الراتب الهزيل الذي يتقاضاه، حرص عبد الله على تعليم أبنائهم في أفضل المدارس، لأنه كان يعقد عليهم آمالا كبيرة، ويراهن عليهم ليكونوا سندا له، خاصة بعد أن أنهوا دراستهم ونجحوا في الوصول إلى الوظائف التي كانوا يطمحون إليها.
تمنى الوالدان أن تكون مبادرة الإنفاق عليهما نابعة من إحساس الأبناء بالمسؤولية اتجاههما، ومن رغبتهم في رد جزء بسيط من التضحيات التي قدماها في سبيل تربيتهم وإيصالهم إلى بر الأمان. خاصة بعد أن رزقوا بأبناء وصاروا يمارسون دوري الأمومة والأبوة بكل ما يرافقهما من صعوبات وتضحيات. لكن سرعان ما سيتبين لعبد الله وزوجته بأن أمنيتهما تلك ستكون صعبة الإدراك نظرا لرفض كل واحد من أبنائهما إقامة والديه معه بشكل دائم، نظرا لكون منازلهم تتسع بالكاد لهم ولأبنائهم.
«ولينا عايشين حياتنا من دار لدار.. كل مرة فبلاصا»، يقول عبد الله الذي صار بعد تدهور حالته الصحية دون مأوى، فهو كان ينفق طيلة سنوات شبابه كل ما يملك من مال لتعليم أبنائه، ولم يستطع ادخار أي مبلغ لاقتناء منزل يضمن له العيش بكرامة وتوفير مصاريف الكراء لتأمين احتياجاته وزوجته.
وجد عبد الله وزوجته نفسيهما مضطرين لقضاء وقتهما في التنقل بين منازل الأبناء بالرغم من شعورهما بأنهما ضيفان ثقيلان في منزل أقرب الناس، لأن الأبناء وجدوا في ذلك الحل الأمثل الذي من شأنه أن يجنبهم المصاريف الكبيرة، متجاهلين رغبات والديهما اللذين سئما من كثرة التنقل.
شادية وغزو.